إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الاثنين، 10 نوفمبر 2014

أنين سينين

أنين سينين
قصة قصيرة
بقلم : أحمد كمال
لمعت النجوم في السماء كما لم تلمع من قبل ، واقترب القمر البدر ليقبل الأرض ، وحام الطير من كل فج حول هذا البيت ، ولم يعكر صفو هذا الخشوع إلا ضجيج مريض أتى من بعد ، اهتزت منه جدران البيت من ثقل نهم الجنازير للإسفلت وقتلها لكل حبات الرمل حتى توقفت أسفل ربوة يسكنها بيت قديم متهالك لكنه بقى قوي متماسك لم يهدمه الدهر .
توقفت السيارة العسكرية وترجل منها ضابط عظيم بخفة ورشاقة وراح يلوح لبقية آلياته لمحاصرة البيت استعداداً لشيء ما . وإذا بباب البيت ينفتح على مصراعيه ويبدوا من وراءه شيخ يتشح بالأبيض من أم رأسه حتى أصابع قدميه ويتوكأ على عصا كانت تتوكأ عليه . انحنى ظهره من فعل الزمن لكن بقيت قوة لديه . تهللت أسارير الشيخ وراح يرحب بالقوة التي تحاصره قائلاً :
- مرحباً بخير أجناد الأرض .. لقد كنت انتظر مروركم منذ دهر ؟
ففزع القائد وجنوده وتوقف كل شيء ، وراحوا يحتمون بدروع الآليات ويوجهون فوهة المدفعيات صوب هذا الشيخ ، وساد صمت حتى تعجب من رد فعلهم هذا الشيخ ، وجذب الضابط العظيم مكبر الصوت وراح يحذره بصوت جهوري مرتعش :
- أخرج ويدك على رأسك أيها الشيخ ولا تحاول أن تقاوم ، ولا أن تفعل أي شيء !! وإلا سنطلق على جسدك الهزيل الرصاص ولن نبقي منك شيء .
فراح الشيخ يهبط  بخطوات ثابتة نحو القوات وتسبقه عصاه وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة بعثت بالطمأنينة على الضابط والجنود فاستحت فوهات البنادق وانحنت مواسير المدافع حتى قال :
- يا ولدي أنا حي أرزق منذ لا أدري من الوقت ولن يؤثر في كل ما قلت !!
فاستغرب الضابط وهو يتبادل نظرات الدهشة مع الجنود إلا إنه بدا من خلف سيارته العسكرية كورقة خس وراح يقترب من الشيخ حتى أصبحا وجها لوجه فسأله قائلاً :
- من أنت أيها الشيخ ؟! فإن القيادة أخبرتني أن هذا البيت مهجور !
فمد الشيخ يده وسلم عليه وبينما يقبض على كف الضابط قال وهو ينظر إليه :
- خدعوك يا ولدي فأنا صاحب هذا البيت !!
ثم دنا برأسه من رأس الضابط حتى تلامست مقدمة أنفيهما والدموع تنساب من عينيه وقال بصوت متقطع خنقه البكاء :
- أنتم ذاهبون لتحرير القدس يا ولدي ؟!
كان الضابط يشتم عطراً من أنفاس هذا الشيخ يملأ رئتاه فتسري في جسده قشعريرة تجعله في نشوة لم يحظ بها من قبل وترقرقت عيناه بالدموع وراح يرد :
- لا يا سيدي نحن لسنا ذاهبون إلى القدس !!
فتراجع حماس الشيخ بعض الشيء ثم استفسر قائلاً :
- ستتوقفون عند بئر السبع ؟! لا بأس .. لا بأس !!
فإغرورقت عينا الضابط بالدموع وراح يرد :
- لا يا سيدي نحن لسنا ذاهبون إلى بئر السبع !!
فتراجع حماس الشيخ بعض الشيء فهز كتفيه وراح يقول :
- آه بالتأكيد ستستعيدون أم الرشراش ، إنها مصرية ولدي الخرائط والوثائق والرفاة الآدمية !!
فأجهش الضابط في البكاء وهو لا يقدر على الجواب إلا إنه قال :
- لا يا سيدي نحن لسنا ذاهبون إلى أم الرشراش !
فذهب كل الحماس عن الشيخ وابتعد عن الضابط بعض الشيء وقال مستنكراً :
- أتكتفون بحشدكم هذا على الحدود رغم كل هذه الانتهاكات يا ولدي !!
فخر الضابط جاثياً على ركبتيه وقد تبللت سترته من الدموع وراح يصرخ وهو لا يزال يمسك بيده قائلاً :
- لا يا سيدي نحن لن نحتشد على الحدود , نحن قادمون لهدم هذا البيت !!
فصعق الشيخ وشد كفه من كف الضابط واتسعت عيناه وقال مستغرباً :
- العدو لا يأتي من هنا ؟!
فتماسك الضابط وراح يقوم وهو يجفف دموعه السائلة على خديه وهو يقول :
- أنا لست بعدو أيها الشيخ ، إنما هي أوامر أنفذها من أجل الأمن القومي !!
وهنا أشاح الشيخ بوجهه عن الضابط واستدار وهو يقول متوجعاً :
- أي أمن ؟ ومن هؤلاء القوم ؟ من يريد أن يهدم هذا البيت لا يمكن أن يكون صديقاً !!
وهنا اندفع جندي يحمل جهاز الاتصال على ظهره وأعطى للضابط السماعة وكان القائد يوبخه بصوت جهوري خشن ويطالبه بنسف البيت فلما أراد أن يرد أنهى القائد الاتصال فرمى الضابط السماعة وشحذ قواه ورفع يده ليعطي إشارة البدء لتدمير البيت . فإذا بالشيخ يثور ويغرس عصاه في الرمال ويدور حول نفسه وهو يرسم دائرة وهو يصرخ غاضباً :
- من يريد أن يهدم هذا البيت لا يمكن أن يكون صديقا !!
فثارت عاصفة من الرمال كادت أن تقتلع الآليات وتمسك الجنود بها ولم تتمسك بهم أغطية رؤوسهم حتى هدأت العاصفة وإذا بجنود من نور أتوا من كل العصور احتشدوا خلف الشيخ لا يمكنك أن تحصيهم لكن يمكنك أن تتأكد من هزيمتك إن قاتلتهم وهنا صرخ الضابط مستغيثاً :
- إنهم إرهابيين ، إنهم إرهابيين
فصاح الشيخ موبخاً إياه قائلاً :
- كررها ثانية وسوف أقتلع لسانك من حلقك بأصبعي .
فابتلع الضابط لسانه واندفع متراجعا ً إلى الخلف حتى عثر عليه جندي الاتصال وراح يتصل بقائده قائلاً :
- يا سيدي القائد إن البيت ليس مهجور ، وأنا بحاجة لدعم !
فرد عليه القائد موبخاً :
- نفذ الأوامر أيها الضابط بما لديك وإلا ستجد محاكمة عسكرية بانتظارك إذا رجعت .
وهنا تفصد جسد الضابط عرقاً غزيراً وارتعدت فرائصه وراح يهتز بقوة وهو يصيح في جنوده المرعوبون قائلاً :
- دمروا هذا البيت !
وإذا بالشيخ ينادي في الجيش قائلاً :
- استعد للقتال يا أيها الجيش .
فشهقت السيوف ، وزفرت السهام ، وتراقصت الرماح ، وطقطقت البنادق ، وزمجرت الآليات ، ورفعت الرايات ، ورفرفت الأعلام ، ولما بدأ الضابط يتقدم نحو الجيش النوري انحنى الشيخ ورسم بعصاه خط على الرمال وكتب فوقه ( إنا منتصرون )
تمت
  

   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق