إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأربعاء، 16 سبتمبر 2009

حدود إنسانية ؟!

حدود إنسانية
قصة قصيرة
كتبها : أحمد كمال
لا أدري من أين أتيت ، لكني علمت أني من نطفة أبي ، في رحم أمي وضعت ، وفيه خلقت ، حدوده ظلمات ثلاث ، ومن حبل صري يأتي رزقي ، بلا قلق ، ولا إرهاق ؟! ويأتيني هواء .
وبقيت تسعة أشهر وعشرة أيام ، وربما عدة ساعات ، يعلم الكل عني ، وأنا عني لا أعلم شيئاً .
ومن بطن أمي نزلت ، واتسعت حدودي ، وصرت فرد ، في مربع صغير يسمى غرفة نوم ، وبقيت أمي الإنسان الوحيد الذي ألفت ، ولبن صدرها مصدر رزقي الذي منه نهلت ، وبين شهيقي وزفيري كبرت ، ونظرات عيني تتلقف عشرات الوجوه ، التي لها ما عرفت ، ولكني عادة بالابتسامة رددت ، وببعض الغمغمات مزحت ، وبغرغرة لعابي تسليت ، ولا أذكر إني بكيت ؟!
واتسعت حدودي ، عندما من غرفة نومي خرجت ، وصارت حدودي عدة غرف يقال لها بيت ، وزحفت وسط تصفيقاً حار ، وبقى التصفيق حتى مشيت ؟! ويأتيني من يخطب ودي ، فأصفعه إذا رأيت ، ومن أخطب وده يتجاهلني فأصفعه حتى ارتويت ، لكني كما أنا بقيت ، عرفت واضع نطفتي ، وشركاء رحلتي ، وتذوقت أطعمة ، فأحببت بعضها ، وزهدت بعضها ، وما رضيت ؟! وصرت أستحي مما تخرج أحشائي ، وبالفطرة تواريت ؟! ورحت أغوص في أعماق حدودي حتى انتهيت .
واتسعت حدودي مع زى مدرسي ، وحافلة تقلني ، وأسوار تحيطني ، وفصل يضمني ، ومعلمة تدرسني ، وزملاء يحيطون بي ، عقلي يتسع ، وقلبي يختلع ، فأنا أريد كل شيء ، ولا أحصل إلا على شيء ؟! وصارت غمغمة الرضيع سباب ، وغرغرة اللعاب بصقات ، ولكني أبداً ما استرحت ، ولا أرحت ؟!
وقبل أن يكتمل نموي نضجت ، واتسعت حدودي بحجم الأرض ، فنهلت من معارفها ، وسحت حول معالمها ، في كل البحور أبحرت ، وفي أعماق المحيطات غصت ، عسى أن أدرك حد ليس بعده حد وكلما تعمقت ، للسماء عدت ، وأدركت إنها ربما نهاية حدودي ، وسر وجودي ، فإليها اتجهت ؟!
مع من صعد للقمر صعدت ، وعليه بقدمي وطئت ، ومن حدود الغلاف خرجت ، واتسعت حدودي إلى ما بعد الأرض ، ازددت شغفاً وامتلأت ثقة ، وبعد التجول من حد إلى حد ذهبت ، أحطم كل أركاني ، أهدم كل بنياني ، وأظن إني للحقيقة قد وصلت ، ونسيت إني من مجهول أتيت ؟!
وإلى ما بعد ، بعد الأرض اقتحمت ، وعلى المريخ هبطت ، فإذا بحدود ما قبل الميلاد ، تتسع إلى حدود ما بعد الفضاء ، وفيه أضعت نفسي ، في كون له اكتشفت ، وحدود أسبح فيها وما رجعت ، تمرد دائماً يدفعني لأجتاز ما بعد الحدود ، وعلى كبح عصيانه ما قدرت ؟!
في فضاء المجرة سبحت ، ورأيت مجرات بعدها مجرات ، حتى إني ذات يوم رجعت ، وكان الشيب قد نال من رأسي ، سألت عن أمي ، فلم يجبني أحد ، ولكني أحسست ؟!
ورحت أتأمل مرقد ها ، وتفيض عينيا بأنهار من الدموع ، ولكني تحيرت ، كيف إن حدودي التي اتسعت بحجم المجرة ، تنتهي في رحم الأرض ، في حفرة تسمى قبر ؟!
انتهى

الجمعة، 4 سبتمبر 2009

الخاتم - قصة قصيرة

الخاتم
قصة قصيرة
كتبها : أحمد كمال
أحدهم يطرق الباب ، بينما الرجل ممداً على فراشه كورقة شجر ذابلة ، عيناه زائغتين ، غائرتين ، وشعره كثيفاً طويلاً ، تبعثر على رأسه المتكور ، ووجهه المقبور مابين شاربه الشارد ، ولحيته المتوحشة ، وتجول الحشرات في كل هذا ، والجرذان تتصارع على فتات لقيمات متعفنة من حوله ، في ظلام حالك ، لا تزال روح الرجل في جسده بغير معنى ، والطاقة في عقله بغير هدف ، ودقات قلبه مجرد عدد ، ونبض عروقه بغير سبب ، جف حلقه من العطش ، وتقلصت معدته من الجوع ، كان يحاول النهوض ، لكن جسده المتهاوي دائماً يخذله ، فيستسلم للرقود ، بلا حراك مقصود .
انفتح الباب ببطيء ، نتج عنه ضجيج من احتكاك الحلقات الصدئة ، الضجيج يملأ السكون ، وإذا بالغرفة المظلمة ، بوجه الضيف تضيء ، فالتفت إليه الرجل الذابل ، الراقد على الفراش الحقير ، يرنوا إليه ببصره مستغرباً ولوجه إلى ذلك المكان السحيق ، قائلاً بصوت مريض :
- ماذا يا أنت تريد ؟! أأنت ملاكاً جئت لتقبض روحي ؟!
فارتسمت على شفتي الضيف ابتسامة رقيقة ، ورد عليه وهو يخطوا بحذر نحوه ، بصوت المستريح قائلاً :
- بلى ، أنا إنسان مثلك ، مولود لمعروف فعلته !!
فأراد الرجل الهزيل أن يضحك ، فاهتز وداهمه سعال شديد ، وارتسمت على شفتيه ابتسامة ملؤها سخرية ، ويقول بينما الضيف قد التصق بالفراش الحقير :
- أنا لا أتذكر معروفاً فعلته ، ربما إنك من الضالين !!
فيجلس الضيف على حافة الفراش ، في مواجهة الرجل الهزيل ، وضياء وجهه قد أرهق عيني الرجل ، فأشاحهما عنه ، بعد أن انقبضت عضلات وجهه ألما، ولكنه استراح لما سمع الضيف يضيف ، بصوت المديح :
- لكن معروفك يتذكرك ، ولا ينساك أبداً .
فاستغرب الرجل والتفت إليه ثانية ، وهو يقاوم ويستحضر قواه ، وينظر وملامح التعب بادية على وجهه ، ثم يعود ليتأمله ، المرة تلو المرة ، حتى خارت قواه ، فألقى بجسده الهزيل ، على الفراش الحقير ، قائلاً بإعياء شديد :
- أنت تسخر مني ، هذا أكيد إني لا أعرفك .
فيربت الضيف بيده على يد الرجل قائلاً :
- إذن دعني أذكرك ؟!
وراح الضيف يذكر الرجل قائلاً بصوت الراوي الحصيف :
- منذ أربعين سنة ، جاءك رجلاً مستغيث ، تلد زوجته ولا مال عنده ، وأنت وقتها كنت ثرياً ، ولم يكن في جيبك مال ، فخلعت له خاتمك الماسي ، وأهديته له ، وبعد عدة سنوات رزق الله المستدين ، وأشترى الخاتم من جديد ، وراح يبحث عنك حيث يعلم ، وحيث أعلمه الآخرين ، حتى سلك دروب المستحيل ، ولما ملأه اليأس عاد بخيبة الأمل ، وباع الخاتم من جديد ، وهو ينوي على شيء جديد ؟!
اعتدل الرجل على فراشه ، وراح يتذكر بينما الضيف يواصل حديثه البعيد :
- هداه من يهدي ، فاشترى لصاحب الخاتم غنماً ، ورعاها له مع غنمه ، وتمر الأعوام كأنها وميض ، والأغنام تتناسل وتزيد .
فجلس الرجل على فراشه ، وأسند ظهره القليل ، على الجدار العليل ، وراح ينصت والضيف يواصل الحديث :
- ضاق الوادي بالغنم ، فراح يبيع منها ، ثم يشتري من جديد ، ولما حقد عليه الرعاة ، هداه من يهدي ، فاشترى أرضاً واسعة ، فسيحة ، عند أطراف المدينة ، وأراح نفسه ، واستراح .
فاعتدل الرجل في جلسته ، حتى قعد وأسند رأسه على قبضة كفه ، المشعر ، المشيب ، وراح الضيف يكمل الحديث :
- ويشق الأرض طريق ، وتصبح المزرعة في قلب المدينة ، وتمطر السماء على الرجل المستدين ، أمولاً حصرها مستحيل ، وبدلاً من المزرعة شيد مزارع ، ومصانع ، وأصبحت المؤسسة ، مجموعة اقتصادية ليس لها مثيل ، تصنع اللحوم ، والجلود ، والأحذية ، وتدر ألبان من كل لون .
فتحشرج الرجل ، وراح يسعل ، كأنه يلتقط نفسه الأخير ، فأسرع الضيف يعسعس حوله عن كوب ماء ، فلم يجد إلا صنبور ، فملأ كفيه ، وأسرع إليه ، وسقاه بكل ما ملأ ، حتى هدأ سعال الرجل المستكين ، وراح ينظر إلى ضيفه وهو يشير بوجه مستريح ، أن يكمل ، فعاد الضيف إلى جلسته ، وراح يواصل حديثه :
- ومات الرجل المستدين ، ويبقى معروفك شاخصاً أمامك ، فأنا المولود ، وهذا خاتمك ، وهذا صك أموالك .
إلا أن الرجل تأتيه صحوة ، وتحركه ثورة ، تجعله يصيح ، ويهب واقفاً وهو يدور حول نفسه ، والدموع تفيض من عينيه وهو يناجي من يناجي قائلاً :
- صعبتها علي أيها الضيف الكريم ، فقد كان عندي أمل والآن أضعته
وينظر إليه الضيف مستغرباً بينما الرجل يواصل قائلاً :
- أضعت آدم الذي حمل الأمانة ولم يصنها ؟
- الذي أكل من التفاحة ولا يزال يأكلها
- الذي أزهق نفس أخيه ولا يزال يزهقها
- الذي أفسد في الأرض ولا يزال يفسدها
ثم وقف ثابتاً أمام الضيف ولا زالت دموعه تفيض ، ويبدوا من صوته نحيب قائلاً :
- إذا كان هذا مردود خاتمي ، فإن ديني ثقيل حمله ، والأمانة لا تضيع ، يضيع فقط من يحملها ؟!
ويذهب مولود معروفه ، ويبقى خاتمه ، وصك أمواله ، على الفراش الحقير
انتهى