إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الثلاثاء، 1 مارس 2011

ميدان الموايد _ قصة قصيرة

ميدان المواليد
قصة قصيرة
كتبها : أحمد كمال
المكان : فراش حقير في غرفة ، في شقة ، في عمارة ، في شارع ، في حي ، في وطن ذليل !!
الزمان : آخر صفحة في حياة الزعيم
وأنا قابع على فراشي الحقير ، أتدثر بغطائي الرقيق ، وأفرك يدي وأنا ارتعش أستدعي دفيء بعيد ، من البرد الشديد ، ولا أرى من نظارتي الطبية ، إلا تلك الصورة الضبابية ، ويتأرجح الفراش كأنه يتراقص على إيقاع أقدام الحشود المليونية ، وتكاد الجدران تصيح مع الهتاف ( حرية .... حرية ... حرية ) وتلك كلمة أبية ، حاولت أن أنساها ، في دروب الوطن الشجية ، حتى صرت أسير لتوجيهات جلالة الزعيم !! فهو يرى ما لا أرى ، ويدرك ما لا تدركه الأبصار ، هو المجد في كذبه ؟! وهو العزة في سقوطه !! فاستسلمت لأهوائه ، فصرت جزءاً من لاهوتيته اللانهائية .
وإذا بتلفازي المريض ينبئني بأمر خطير سوف يبشر به جلالة الزعيم ، فسرت في جسدي قشعريرة ، واطمأنت دقات قلبي وصارت قليلة ، ورحت أتنفس الصعداء وأنا أزفر على نظارتي ببخار وأنظفها استعداد للإنصات ، وارتسمت على شفتي ابتسامة حقيرة وفي عقلي شيطان يردد :
- سيسحق تلك الحشود الغفيرة !!
ولما لا ولم يوقف الشعب يوم مسيرة ؟!وراح المذيع يكرر ، وشريط الأنباء ينبه ، وأنا أتحمس من وتيرة إلى وتيرة ، وتتعملق روحي ، فيقمعها جسدي ، ويئن عقلي بكلمات سحقت تحت النعال ، محيت من الصفعات واللكمات والركلات ، ارتعشت لما تذكرت وفي حينها أفقت !! فوقفت فوق الفراش وراح جسدي يتفصد عرق غزير بالرغم من البرد الشديد ، ومن جدار إلى جدار رحت جيئة وذهاب ، ولا يزال يغزوني الهتاف وأنا أرنوا إلى المذياع ، أنتظر طلت جلالته .
وأخيراً ... أخيراً يطل جلالة الزعيم ، بنفس ذلك الوجه القبيح ، فإذا بعيني تدمعان ، وأنا أتأمل عيناه الزائغتان ، وخيوط على وجهه رسمها الزمان وعجز عن محوها الأطباء ، هو .. هو نفس الزعيم الذي أذلني منذ أن كنت رضيع ، هو نفسه الآن ، الآن ذليل ، يحاول أن يسترضي الملايين . ويستجدي عطفهم ، فأسرعت أجثوا على ركبتي وأمسك بالتلفاز أريد أن أخترق الشاشة لأتيقن أن هذا هو هو نفسه الزعيم ، أكدت لي أذني إنه صوت جلالته شرخته السنين ؟! تفحصت نظرته ، فيها مكر شديد ، حتى قال جلالته :
- لن أترشح من جديد .
فيولد في نفسي وليد ، حر أبي سعيد ، يموء ويعوي ببراءة ووعيد :
- بالروح بالدم نفديك يا إنسان .
وأردد أنا بأطراف اللسان :
- بالروح بالدم نفديك يا زعيم .
- ويعلوا هتافه ، ويعلوا صياحي ، ويتدفق من عيني نيل عظيم ، فاض فأغرق غرفتي بماء زمزمي عتيق ، شربت منه حتى ارتويت ورحت أنا والوليد ، بفرحة الأطفال يوم العيد ، نرش الماء على الجدران لنرى من ورائها ملايين الرؤوس تتهادى وتسير في حشر أخير ، تزلزل الأرض ، وتحي البعض ، وتميت آخرين ، فاستسلمت لذاك الوليد وأنا أراه يكبر وأنا أصغر حتى صار عملاقاً كريم ، وأصبحت أنا قزم شرير ، لا أقوى على التطلع في عينيه من عار قديم ، فأسرعت أتوارى وأنا أرى سقف غرفتي سماء ليس لها حدود ، تتلألأ بآلاف آلاف النجوم ، راح يمسكها ويقبلها ثم يعيدها بإتقان شديد ، وبينما أنا أنزوي في ركن الغرفة البعيد ، راح يهتف الوليد ، ويستدعي من كل مكان وليد ، حتى صارت غرفتي ميدان المواليد ؟!
ويسقط وليد ، ويولد من جديد ، فيأتي وليد ، ويسقط من جديد ، وحامت في غرفتي لأول مرة طيور خضراء تريد أن تثور ، وراحت تحاصرني في الركن البعيد وأنا لا زلت متقوقع أخشى الوعيد ، ولما حاولت الفرار تعثرت في كتاب التاريخ ، اختبأت فيه ، فطاردتني العبارات ، ولعنتني الكلمات ، ومزقتني الحروف بعشرات السيوف ، فأسرعت أهرب من جديد وأنا أقلب في كل صفحات التاريخ ، ليس بها غير المواليد والطيور الخضر ولا أثر لجلالة الزعيم !!
وسقطت من كتاب التاريخ وأنا أرى الطيور الخضر تلتقط بمناقيرها حبات من اللؤلؤ المضيء وأنا أتمتم قائلاً :
- لا أثر لجلالة الزعيم ... الطيور الخضر فقط والمواليد في كل صفحات التاريخ .
تمت