إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأحد، 26 يوليو 2009

قبلة على الإسفلت ؟!

قبلة على الإسفلت ؟!
قصة قصيرة
كتبها : أحمد كمال
تنفس الصبح ، وأشرقت الشمس ، وتجمع عمال الطرق ، بعشرات المعدات والآلات الضخمة ، ليمهدوا من جديد ، الطريق المهجور ، وسط العاصمة الزاهية ، وما أن بدأ العمل حتى تعطلت المعدات ، وانفجرت الإطارات ، وانصهرت المجنزرات ، ونزف العمال دماً غزيراً ، ففروا بلا عودة ، وهم يصيحون ، ويستغيثون .
وبقى الطريق كما هو مهجوراً ، ممتليء بحطام مئات السيارات المحترقة ، وعشرات ، العشرات من القطط ، والكلاب الضالة ، وخيمة منزوية على ناصية الطريق ، كسوتها مرقعة بألوان البشر ، أسفل إشارة المرور المضاءة باللون الأحمر منذ دهر ، أو دهور ولم تنطفيء .
وما أن إنتصفت الشمس في السماء ، حتى أتت سيارة فارهة ، ترجل منها رجل نال الزمن منه نيلاً ، فكسى الشيب رأسه ، ولحيته ، وتجعدت ملامح وجهه ، وبقى له وقاراً وهيبة ، وسار بخطاً حذرة ، نحو الخيمة البالية ، ينادي بصوت متداعي من أيام عاصية ، فخرج ساكن الخيمة بثياب رثة ، وشعور كثة ، ودهشة متناهية ، متسائلاً بصوت العاشق من أيام خالية :
- من أنت ؟ وكيف وصلت بسيارتك إلى هنا ولم تحترق ؟!
فنظر الآخر إليه نظرة شفقة بادية ، وأشعت من عينيه نظرة عطف آنية ، وصمت ، صمت البعير على مذابح الأزلام ، وراح ساكن الخيمة يدور من حوله ، ويتفحصه بعينين مبحلقتين ، والدهشة تكسوا وجهه ، ثم صاح
- أنت من أنتظر منذ الغروب ؟! أنت من تنتظره التي هانت وعلى قلبي لم تهون ؟!
فرد عليه الآخر والفضول قد تحكم فيه :
- أي ود هذا ؟ أنا أريد أن أعيد فتح الطريق ؟!
فقعد ساكن الخيمة على الأرض ، ونظر بعينيه إلى أعلى ، وإرتسمت على شفتيه إبتسامة قائلاً :
- رد للمهد حقه ، وصون الود ، ينفتح لك الطريق !!
فنظر الآخر مستغرباً ، إلا إنه قعد أمامه منصتاً بشغف ، ليقول ساكن الخيمة والدموع تتسلل من مؤقتيه :
- عثرنا عليها في ليلة قاسية ، ملفوفة في غطاء وثير، نظر كل من نظر إليها فأسرته بوجهها الأبيض كاللبن المصفى ، ونقاء روحها ، وطيب أنفاسها ، وتنازعنا على تربيتها ، في حي كل من فيه أسير ، لفقر متحكم ، ولكن بقى في قلوبنا العطاء واجد ،أسميناها ود ، ونمت أمام أعيننا كزرع مبارك ، في أرض طيبة ، وإكتست رأسها بشعر غزير كأنه المزج بين البيداء والجبل السقيم ، فتلمحها من بعيد فتعرفها من تاج رأسها الكثيف ، وصارت تسأل عن الرحم الذي حملها ، والنطفة التي أنبتتها ، ولا نجيب ، فنحن لا نعلم ما هويتها ، ولكن بالحب أحطناها ، ولا شيئاً منها نريد ، حتى تفجرت أنوثتها ، وجاء الخاطب تلو الخاطب ، ويذهب والكرة لا يعيد ، فمن يقترن إسمه بمن لا إسم لها يشقى شقاءاً شديد ، ودرت ود بحقيقتها ، وراحت تبحث عن هويتها ، تشتم الرحم الذي حملها ، وتلهث وراء النطفة التي أنبتتها ، حتى تجمدت يوماً في هذا الطريق ، أمام سيارة فارهة ، تقودها إمرأة آسرة ، تماثلت ملامحهما ، وشخصت أبصارهما ، وخشعت قلوبهما ، وكادت الأخرى أن تبدي بها ، ولكن قسوة قلبها غلبتها ، وزيف الحياة أغراها ، فإنطلقت بسيارتها ، تطوي الأرض ، والزمان ، وذكريات آلامتها ، وخطيئة ود بها ذكرتها ؟!
ثم راح يجهش في بكاء شديد ، ويكمل بصوت النحيب :
- ولكن وهي تفر من خطيئتها ، بسيارتها صدمتها ، وانفتحت إشارة المرور ، ودارت ود حول نفسها ، غير مصدقة فعلتها ، وذلت قدماها ، وهوت على الإسفلت ، فداست فوق رأسها الرقيق ، إطارات شاحنة فجرتها ، ونضح الدم على الإسفلت ، وبقى الجسد الرقيق ينتفض بحثاً عن هويته ، وكسرت عظامها ، وتهشمت ، وسحقت ، على الإسفلت سحقاً ، بفعل مئات الإطارات ، من عشرات السيارات التي لم تتوقف ، ولم يكن في قلوب سائقيها مثقال ذرة من رحمة ، وتناثر فتات لحم جسدها ، تطعم الكلاب الضالة ، والقطط الجائعة ، حتى أغلقت الإشارة ، فركضت مع من ركض لإنقاذها . لم يتبق منها غير بقعة دم ، وخصلة شعر ، و صار قاع الطريق قرارها .
ومن جيبه أخرج خصلة الشعر ، ومد يده بها إليه ، ما أن لمسها حتى صارت قشعريرة في جسده ، ولمعان ذكري متعة فانية في عقله ، ونزيف من الندم يدمي قلبه ، وأخذ يصيح ، ويجهش في البكاء ، وينتحب :
- يا ويلي .... يا ويلي ....يا ويلي
وقام الرجل من القعود ، وأخذ يذهب ويعود ، ثم راح نحو سيارته ، وفتح بابها الموصود ، وأمسك بباقة ورد يهديها لود ، وأبقى باب سيارته مفتوح ، وجثا على ركبتيه ، وساكن الخيمة راح يهتز من بكاء شديد ، ووضعه على ضريحها الموهوم ، ودنا برأسه من الإسفلت وطبع عليه قبلة بشفتيه وهو يقول :
- ننساها ، وهناك من يحصيها ، سامحيني بعد أن فات الأوان ، يا إبنة لم يتبق منها إلا خصلة شعر ، وبقعة دماء .
ثم راح يجهش في بكاءه ، ويمرغ وجهه في الإسفلت ندماً ، وألماً ، ورحلت الكلاب لأنها وجدت من يأويها ، ولم تعد القطط بعد أن وجدت من يطعمها ، وبقى ساكن الخيمة يبيع الورود ، وأصبح على كل من يرغب في المرور ، أن يقبل ضريح ود الموهوم ، ويهديه باقة من الورود ، وسميت الإشارة بإسمها ، وصارت الناس تشتم عطر ورودها من رحم أحزانها ، فأطلق على الشارع إسمها ، ولم يمض وقت طويل حتى صارت في كل الحي محلات الورود ، فأطلقوا على الحي إسمها ، وإجتاح المدينة آلاف النادمين ، يقبلون الإسفلت ، ويقدمون الورود ، فأطلقوا على المدينة إسمها ، وأصبحت الفتاة التي ماتت بلا هوية ، هي بذاتها هوية لمدينة بأكملها مدينة (( ود ))
إنتهى

السبت، 25 يوليو 2009

من تحت الركام ؟!

من تحت الركام ؟!
قصة قصيرة
كتبها : أحمد كمال
برق يخطف الأبصار .
رعد يصم الآذان .
ظلام دامس .
ثبات عميق .
جسدي محشور بين الركام ، أحجار البيت والآلام ، جسد لا تزال فيه بقايا من الحياة ، وروح تأبى البعث والإستسلام .
لاأدري كم من الزمن مكثت في الظلام ؟! وإلى متى سوف أبقى في ثبات ؟أسئلة أطرحها منذ قديم الزمان ولم أجد لها أي جواب .
عبرت إلى أذني دمدمت محركات ، وزلزلت أقدام ، فاستبشرت خيراً ورحت أصيح ، وأصيح ، مستغيثاً تارة ، وتارة متوسلاً ، ولكن بلا جواب ، فرحت أتلوى بجسدي الهزيل ، لأخرج من بين الركام .
وبعد شقاء وعناء ، إنسلخ جلد جسدي وسط الركام ، وتحررت من أسري ، وبدأت أصعد إلى الأعلى ، والضوء المريض يتسلل إلى عبر نفق مظلم يملأه الحطام ، بصرت عيني ، وإستبشرت روحي ، ورحت أزحف نحو الآمال ، حتى برأت رأسي من تحت الركام .
نظرت حولي بإعياء ، وأنا أكاد لا أرى إلا أشباح ، ولا أسمع إلاطقطة البنادق ، وهدير المدرعات ، وأزيز الطائرات .
ولمع في ذهني بريق الذكريات ، كنت جالساً وسط أهلي ، في بيتي الذي يحيط به بستان ، وتطل شرفته على مسرى سيد البشرية ، وأري من غرفة نومي قبة المعراج ، لكن أين بيتي ؟ ماذا حدث لأهلي ؟ وكيف أشجار الزيتون ؟ ومن هؤلاء الأشرار .
وإذا برافعة جرافة توشك أن تطيح برأسي ، وأنا أصيح في هياج :
- توقف أيها السائق إنني لا زلت على قيد الحياة !!
فساد صمت ، فسكون تام ، وإحتشد الجميع من حولي يتأملونني كأنني شيء هام ، ثم تبادلو نظرات الدهشة والإستغراب وإذا بقائدهم يسألني بصوت كعواء الذئاب :
- كيف بقيت إلى الآن على قيد الحياة ؟!
فرفعت رأسي إلى السماء ، ثم رنوت إليه ببصري قائلاً :
- لقد نكب بيتي بالأمس ، وينجي من يشاء !!
سرت دهشة عظيمة بين العقول ، والأذهان حتى عاد قائدهم يسأل بصوت الذئاب :
- أتدعي أنك هنا منذ الأمس ، ألا ترى ما حولك من متغيرات ؟!
فدرت برأسي والألم يعتصرني بلا رحمة ، وأنا أتفاجأ بما قال ، بيتي غير موجود ، ولا بيوت كانت حوله ، وبستان الزيتون ذهب وصار بستان من الدماء ، عشرات البيوت الشاحبة أتت مع الأشرار .
فصرخت وأنا أنفجر من الغيظ قائلاً :
- ماذا فعلتم بأرض الرباط ؟ أين ذهب أهلي أيها الأوغاد ؟ وماذا حل بأشجار الزيتون يا أشرار ؟
فإنحنى القائد ودنا برأسه من أذني هامساً :
- الأرض لنا بالميعاد !! وأهلك تجدهم بين راقد تحت الثرى ، أو مشتت في الأمصار ، وأشجار زيتونك أحرقناها لنعيد حضارة شعب مختار .
وعاد منتصباً وهو يصيح في سائق الجرافة قائلاً :
- إسحقه يا فتى ولا تترك منه يوماً واحداً ؟!
وراح سائق الجرافة يعتدل بجرافته ليسحقني ، ورحت أقاوم بكل ما أوتيت من ميراث ، وما كادت رافعة الجرافة تدهسني حتي تحررت من بين الركام ، ورحت أتدحرج نحو لا شيء ، حتى أنجو من موت لا مستحق ، وعلى يد جماعة من الأشرار ، وبالرغم من كل الآلام وقفت ، وإنتصبت هامتي وعلت إلى السماء ، وأنا أصيح في غضب :
- هيا إرحلوا مع من رحلوا ، ولا تعودوا مرة أخرى لهذه الديار !!
إستشاط القائد غضباً ، وهو يرى الجسد الذي ظن إنه ميت ، لا تزال فيه الحياة ، ووميض الذكريات التي بداخلي ، صارت وهجاً أحرق كل آملاهم في البقاء ، فصرخ بصوت الذئاب قائلاً :
- إقتلوه ، إنسفوه ، لا أريد حتى ذكراه ؟!
فتدافعت نحوي عشرات الجنود المدججة بالسلاح ، وعشرات الدبابات الوحشية بزمجرة العنفوان ، وعشرات الطائرات الحربية بأزيز الكبرياء ، وراحت الطلقات ، والقذائف ، والصواريخ تلاحقني ، ورحت أركض نحو لا شيء وأنا أتطلع إلى السماء متمتاً :
- يا ربي درع وسيف وإستشهاد
وتفتق جسدي الهزيل ، بدرع من حديد ، ما أدركته إلا بثقل حركتي ، وغصن زيتون يابس مهمل على الأرض ينجذب إلى يدي سيف مسلول جامح ، وينبعث من بين التراب حصان أبيض تحيط به الدروع من كل جانب ، إقترب ، وحنى رأسه ، ثم جثا على ركبتيه لأمتطيه ، وإنطلق نحو الأفق يطوي الأرض وأنا أظنه غوي شارد ، فإذا به بعيد ، بعيد ، من تحت الشمس ، يغازل الأرض بحافره ، ثم راح يركض سريعاً ، وصهيله يملأ الآفاق ، متجهاً نحو المعركة ، وأنا أتمنى رمحاً فيأتيني ، فأرم به طائرة فتتحول إلى أشلاء ، وأتمنى قوساً وأسهما ، فتأتيني وأرم بها الدبابات فتتحول إلى فتات ، وما أن إقتربت من الإلتحام ، حتى وجدت كل ذرات تراب الديار من خلفي ينبعث منها فارس يرتدي درعاً ويمسك سيفاً ، ويمتطي جواد ، وراح الأوغاد يفرون في كل واد ، ونحن نقتلهم بلا هواد ، وأنا أبحث عن قائدهم حتى وجدته يتحول إلى أفعي لها خمسين رأساً ونيف ، تطوحنا بذيلها ، وتسممنا بأنيابها ، فتكاتفنا جميعاً ، وأحطنا بها ، فتشتت جهدها ، وراحت تتلقى ضربات قاتلة على الأعناق ، حتى هوت وسقطت على الأرض بلا حراك .
وانتهت المعركة بنصر ساحق لا لبس فيه ، وإنطلقت والجيش من خلفي، أحمل راية لا كونية ، إيذاناً بإنتهاء آلام البشرية .
إنتهى

"فوركس اونلاين"

http://ar.forexfloor.com/

الأحد، 19 يوليو 2009

الزورق

الزورق
قصة قصيرة
كتبها : أحمد كمال
أخيراً إنتهى حفل الزفاف ، وآن لي أن أحمل عروسي وأرحل ، ترحل الناس في سياراتهم ، وأنا أرحل في زورق لأني صياد ، البحر دنياي ، وعلى الجزيرة مسكني ، والرزق في شباكي ، والأسماك مأكلي ، هذا قدري وأنا سعيد به
سرت على الجسر الخشبي وسط المياه حيث يرسوا زورقي ، بينما العروس لا تزال تودع أهلها وتتلقى المزيد من النصائح ، ولا زلت غير مصدقاً أنني سقطت في شباك إمرأة وتزوجت ، إنني لم ءألف النساء ، ولا أحسن معاملتهن ، ثم إنني بالكاد أعول نفسي ، فكيف أعولها ، ثم أبنائها .
كدت أطيح في البحر بينما أرفع مرسى الزورق من هذا العبأ الثقيل فصببت عليها جام غضبي وصرخت فيها منادياً :
- هيا أيها العروس ... فأنت بالكاد تزوجتي ، ولا يزال أمامنا سفر بعيد .
إرتعبت المسكينة وراحت تمسك بفستانها الأبيض الطويل وتركض نحوي حتى غضبي لا يستشيط ، وما أن أطرفت عيني إلا وكانت أمامي ، وأنا أنظر إلى الجسر الطويل ، وجسدها المنهك ، وأنفاسها التي تتلاحق كأنها عبرت المحيط !! أشفقت عليها وكدت اعتذر لها ، لكن لا.... لا هذا مستحيل .
قفزت إلى الزورق كأنني عاشق ، وإحتضنني الزورق كأنه عشيق ، وبقيت العروس على المرسى بلا عاشق ولا عشيق ، تنتظر يداً ممدودة ، فأبت اليد أن تلبي ، وتحجر قلبي بين الضلوع ، وأقسمت إذا لم تقفز فلسوف أتركها على المرسى وأرحل .
وكأن ما همست به في نفسي قد ذاع في الوجود ، وإذا بها تقفز في يأس المنتحرة على متن الزورق وتستقر في قاعه وهي تتألم بأنات صامتة ، وتنظر لي في ذهول ، جلست في وسط القارب ، وأمسكت المجدافين ، ورحت أجدف في حماس ، وأنظر لها وهي تتوارى من الألم ، وتكتم النواح ، حتى تمكنت من الجلوس أمامي وبدأت تشعر بإرتياح ، وساد صمت ، خيم عليه سكون ، فضحه ضوء القمر ، المتلأليءعلى بساط ممدود بلا حدود ، يشقه زورقي الجامح بلا هدوء .
راحت تتنحنح ، وتتحشرج ، تحاول أن تستنطقني ، وأنا في وعثاء السفر غارق ، ومن التجديف منهك ، وأكظم غيظي ، فالزورق لم يكن ثقيلاً هكذا من قبل ، والطريق أبداً ما ألفته طويلاً ، تفصد جسدي عرقاً غزيراً ، غزيراً وإبتل ثوبي وتغلغت نسمات باردة في عظامي ، فسرت في جسدي قشعريرة ، وتباطأ الزورق شيئاً فشيئاً حتى كاد أن يتوقف وإذا بصوت آسر ، يدغدغ مسامعي :
- هل تسمح لي أن أساعدك ؟!
تكبرت أن أجيبها ، وأنا في نفسي أتوسل لها أن تفعل !! فدنت مني وجلست إلى جواري ، وأمسكت بالمجداف وراحت تضرب الماء بقوة الضعيف ، وراح الزورق يندفع ، ويندفع كأنه مستكين ، ويهلل الماء لمجدافها ويناشدها بالمزيد ، فإنحرف الزورق في إتجاهها ، ولم أستطع مجاراتها ، فدار الزورق حول نفسه حتى صرت أستحي وأتلفت حولي عسى أن يشفق علي البحر ويبتلعني من هذا المشهد الرهيب ، فهمست بصوتها الآسر مرة أخرى متسللة إلى أعماق ، أعماق قلبي قائلة :
- هل يمكن لك أن تستريح ؟
لم أتمالك نفسي ورحت أضحك ، وأضحك ، وأضحك ، ويعود صدى ضحكاتي إلي فأضحك أكثر ، وأكثر، وأكثر ، وأنا أنظر إلى هذا المتكبر يتنحى عن متن زورقه ، تاركاً مجدافيه لزوجته ، لأنه هوى من تعب مرير ، ولما إستقريت على مؤخرة الزورق ، وبدأت ضحكاتي تتوارى مع فضيحتي المدوية ، سألتها :
- لماذا قبلتي الزواج بي ؟
فنظرت إلي وهي لا تزال تجدف كأنها ولدت في زورق قائلة :
- أنا لم أعترض على ما وافق عليه أهلي ؟!
فنظرت لها هازاً رأسي بأنني لم أفهم ، فقالت مستئذنة :
- أتسمح لي بأن أشيح حجابي ؟!
فأسرعت مازحاً :
- ولما لا فأنا لست إلا زوجك !!
تركت المجدافين ، وأشاحت بالحجاب عن وجهها ، وقد إرتسمت على شفتيها إبتسامة شاهدت فيها أفق الجنة ، وكشفت عن ساقيها ، وشمرت عن ذراعيها ، وراحت تجدف بحماس بالغ ، وشعرت بأنني مع صديقاً ألفته وليس إمرأة تزوجتها ثم قالت :
- أنا لم أخير حتى أختار ، والزواج قدر نخضع له متى جاء !!
نظرت لها مستغرباً ، مندهشاً ، متسائلاً :
- ألم تعشقي من قبل ؟!
ضحكت ضحكة مجلجلة وحماسها في التجديف راح يزداد وقالت :
- وهل علمت بعشق في هذه الديار ؟! نحن إذا عشقنا الشمس كسفوها ! وإذا عشقنا القمر خسفوه ! حتى الظلم إذا ما عشقناه نصروه؟!
فصحت فيها معترضاً أحاول أن أهدأها :
- ليس لهذه الدرجة فنحن نقدركن ، ونصون مشاعركن !!
فعادت تضحك ضحكتها الساخرة قائلة :
- أية مشاعر يا سيدي ... نحن لدينا عقول إذا فكرنا بها أتهمنا بالجنون ، وقلوب إذا عبرنا عنها أتهمنا بالفجور ، ومشاعرنا يجب أن تبقى حبيسة صدورنا حتى ينزلونا القبور !!
ووجدت نفسي أنظر في قاع الزورق تهرب عينيا من مواجهتها ، فأنا منذ غمضة عين كنت قاسياً عليها ، وتعاملت معها أسوأ مما أتعامل به مع زورقي ، لا أدري ماذا أفعل ، كيف أتقرب إليها ، وأنا أرنوا منها بطرف عيني ، اتأمل وجهها الأبيض المستدير ، بملامحه الملائكية ، و جسدها الثائر ، الذي فجر بداخلي ينابيع لم تكن تتفجر لولاها ، حتى قالت :
- أتعدني أن تحبني ؟ وإذا ما كرهتني لا تظلمني ؟!!
أسرعت نحوها وأنا أشتم عبق أنفاسها الطاهرة ، وتلفحني خصلات شعرها المتراقصة ، لأقول بصدق لأول مرة يغمرني :
- نعم أعدك بذلك !!
تهللت أساريرها ، ولكن بدا تجديفها يخفت ، ويخفت ، حتى كاد الزورق يتوقف ، فرحت أجدف إلى جوارها ، فراح الزورق ينحرف في إتجاهي ، حتى أنهكت تماماً فشددت على أنامل كفها الصغير ، فإرتعشت يديها ، وإرتجف جسدها ، وراحت تغوص في أعماق ، أعماق عينيا ، وصدقت لغة العيون عندما قالت عينيها كل قصائد العشق لعينيا ، وهمست بصوت العاشق في أذنيها قائلاً :
- سامحيني على قسوتي فإن الرجل الشرقي لا يكون إلا بقسوته رجلاً ، متكبراً أنا وكل من حولي صغار ، والحب كما توارثته إمتلاك ، فإمتلاك ، فجحود ، فاستريحي الآن يا حبيبتي .
وجلست على مؤخرة الزورق ، ورحت أنا أجدف، وأجدف ، وأجدف ، وأصبح الزورق الذي كان ثقيلاً ، ريشة في الهواء ، وإذا بالزورق يغوص في الرمال ، لقد وصلنا الجزيرة ، وكان الإبحار قصيراً ، قصيراً ، قفزت من الزورق ، وأنا أمد يديا لتمسك بيديها ، حتى فاجئتها بأني إلي جذبتها ، فراحت تطلق ذراعيها في الهواء ، وسقطت بين ذراعي ، فحملتها وأنا أمتلأ سعادة بحملها، وأنشد وأنا اخطوا بجدية :
- مرحباً بك يا شريكتي .... في جزيرتي !!
إنتهى

السبت، 18 يوليو 2009

حقيبة الرحلة الأخيرة !!

حقيبة الرحلة الأخيرة ؟!
قصة قصيرة
كتبها : أحمد كمال
علا صفير مكابح القطار ، ودوى نفير قاطرته ، وراح الركاب ينزلون الواحد تلو الآخر ، ضوضاء ، غوغائية ، ومكبرات الصوت تنادي :
- على السادة ركاب قطار الرحلة الأخيرة إحضار حقائب أمتعتهم .
تلفت حولي وأنا لا أكاد أرى شيئاً ، أبحث عن حقيبة أمتعتي ، وإذا بها محفوظة على أحد الأرفف ، كانت ثقيلة ، ثقيلة ، وثيابي تعيقني عن الحركة ، بقسوة شديدة ، شديدة ، وبالرغم من ذلك تمكنت من الهبوط إلى الرصيف .
ضوء خافت ، في ظلام حالك ، وزحام شديد ، أفواج ، وأفواج من البشر حشدت ، هبطت كلها من القطار ، وتتدافع في كتلة بشرية واحدة ، كموج متلاطم في أعالي البحار ، أشفقت على نفسي من ذلك الزحام ، ورحت أتلفت يميناً ويساراً أبحث عن مخرج ، بلا جدوى ، فألقيت بجسدي الهزيل ، وسط الحشد المهيب ، وأنا أجر حقيبة أمتعتي ، على أطراف أطراف أصابعي كانت خطواتي ، ومن ثقب إبرة كانت تأتي أنفاسي ، دارت الدنيا من حولي ، وتفصد جسدي عرقاً غزيراً ، وكدت أن أغوص وسط الحشود ، لولا أني رأيت نهاية الرصيف على مرمى مني .
في نفس الضوء المريض ، جلست أمام أحد المستقبلين ، أعطاني ورقة بها خمسة أسئلة ، أمسكت بالورقة ، قلبتها ذات اليسار ، وذات اليمين ، وأجبت على الأسئلة ، ويملأني إستغراب شديد ، حتى أشار لي بالمرور عبر البوابة ، وأنا أحمل حقيبة أمتعتي ، وأتجه نحو باب عظيم ، وتتداعى إلى أذني ، تأوهات الندم ، وصيحات الخوف ، وصرخات الألم ، لم أستطع أن ألتفت ، ولا حتى فكرت في ذلك ، فالمستقبلين غلاظاً ، شدادا .
وبينما الفرحة تملأني لأنني أوشكت أن أجتاز البوابة ، إذا بأصوات مبحوحة تنادي علي ، وتلح في النداء ، هذه الأصوات تألفها أذني ، أدرت رأسي يميناً ويساراً أبحث عن من ينادي ، فإذا بهما أبي ،وأمي ، إقتربت ، إزددت إقتراباً ، وأنا مندهش ، ألم يموتا ؟ لقد دفنتهما بيدي، وصببت على قبريهما الماء ، وزرعت لهما النخل والزيتون ، والصبار ، هل عادا إلى الحياة ؟ ولكن كيف ؟
تعانقنا بإشتياق ، وضمتني أمي إلى صدرها ، والدموع تفيض من عينيها وتصيح :
- ما خيبت ظني يا ولدي ؟ وصدقت تربيتي لك
بينما والدي يمسح بيده على رأسي قائلاً :
- أنجيتنا بطهارة قلبك يا ولد ، وكنت أنا لها من الساخرين ، زهدت ، فعلوت يا ولدي .
وكان السؤال يلح علي طيلة الرحلة ومن غير أبي يجيب عليه :
- أين نحن يا أبي ؟ وكيف عدتما للحياة ؟
ضحك ضحكة مجلجلة ، هزت أركان المحطة ، وفاضت الدموع من عينيه ، وهو يقهقه ، حتى قال:
- نحن هنا يا ولدي ؟
إتسعت حدقتا عيني مستغرباً ، فواصلت أمي :
- نحن لم نعد للحياة ؟
ونادى المنادي بمرور الركاب عبر بوابة الزمن الخلفية ، وأنا أتأمل والديا متسائلاً :
- ألن تأتيا معي ؟
فقالا في صوت واحد :
- لقاء قريب !!
وتلاشى الأثنين معاً ، بعيداً ، بعيداً ، وأنا شارد الذهن ، مشتت ، لا أستطيع أن أقبل بالحقيقة ؟!
وركضت نحو بوابة الزمن الخلفية ، وأنا أحمل حقيبة أمتعتي الثقيلة ، حتى مررت من تحتها ، ساعة في حجم القمر ، وعقاربها كناطحات السحاب ، ولكن زمنها لا يتقدم ، ولا يتأخر ، وليس بها أرقام ، بها صفر كبير، عملاق ، وفور عبور البوابة أمسك بي الحراس ، شدوا وثاقي ، ووضعوا حقيبتي الثقيلة على الميزان ، فاضت دموع عيني كالأطفال ، أهاب النتيجة ، أخشى العاقبة ، أحاول أن أتخلص من قيدي بدون فائدة ، وطبت كفة الميزان تحمل حقيبتي ، فصحت مهللاً ، لقد نجوت من أصعب إمتحان ، ونظر الحراس صوبي مستغربين فرحتي ، وهم يشيرون لي بأن أهدأ ، دون جدوى ، حتى جاء حشد عظيم ، وأنا أتفحصهم ، أحاول أن أشخصهم ، هذا أبي ، وتلك أمي ، وهؤلاء إخواني ، وأخواتي ، أصدقائي ، صديقاتي ، أبنائي ، وبناتي ، وآخرون لا أعرفهم ، ولكنهم يعرفونني ، فتحوا حقيبتي ، سلبوا أمتعتي ، القطعة تلو الأخرى ، إقتسموا ما في حقيبتي من خيرات ، وأنا أصيح فيهم :
- أتركوا أمتعتي ، أنتم لستم بأهلي ، أنا بريء منكم
وبدون أي فائدة ، أتعبت حالي ، وفرغت حقيبتي ، وتبقى من الحشد قليل ، دسوا في حقيبتي قمامتهم ، ونقل الحراس حقيبتي إلى أقصى اليسار بدلاً من أقصى اليمين ، وأنا أدرك أنني ضائع ، هالك لا محالة وتدلى رأسي على صدري ، وتملكني يأس عظيم ، وقد تداعي إلى أنفي رائحة شواء ملايين الأطنان من اللحوم ، فصحت في الحراس متوسلاً :
- فكوا وثاقي فإن لي في البيت أمتعة سوف أحضرها !!
نظر كبير الحرس وقال بصوت لا رحمة فيه :
- لا عودة من هنا !!
وبقيت أنا أصيح ، واصرخ مستغيث ، وإذا بمن يهزني من كتفي قائلاً :
-إستيقظ يا رجل ، فالقطار على وشك المجيء ؟!!
إنتهى