إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الثلاثاء، 27 أكتوبر 2009

حديث القبور - قصة قصيرة

حديث القبور
قصة قصيرة
كتبها : أحمد كمال
( فيلسوف القصة )
في نفس المكان ، وإن اختلف الزمان ، (( كافيتريا )) السوق الكبير ، حيث الزحام ، واختلاط الأقدام ، وتلاصق الأجساد ، واسمع من بين الضجيج ، صوت نواح ، واستعطاف ملاك ، سبق وسمعته ، ولم أرق له ، اندفعت نحو الصوت يرشدني ، أزيح من أمامي كل ما يعطلني ، حتى وصلت ، نفس الطاولة ، نفس الأشخاص ، وإن اختلفت الأسماء ، وملامح الوجه ولغة اللسان ، تبكي ابنته ، ويضربها بقسوة ، بعد أن طوحت بغير مقصد كوب العصير ، فانقضضت عليه أمنعه ، وقد أصابه ذهول ، وراح يبحلق في كأني مجنون ؟! إلا إنه وقر شيب لحيتي ، وطعن سني ، فرحت أقول بتوسل وخضوع :
- لا تستقو على الضعيفة ، فيصبح الندم رفيقك ، حتى نهاية الخليقة .
فنظر إلي وقد ساده هدوء ، وخشع قلبه للدمع المسكوب ، من نبع عيني المغمور ، ثم رحت أقول :
- أتوسل إليك أمسك .... ولا تفقد ابنتك من أجل كوب عصير ؟!
فملأ الرجل خضوع ، ودعوته ليسمع قصتي ، وابنته في حضرتي ، أزدناها بكوب آخر من العصير ، ورحت أقص عليه قائلاً :
- قبل أن يشيب هذا الرأس ، كنت جالساً في نفس المكان ، معي زوجة ، وعندي ابنة ، أهداهما إلي الرحمن ، فطوحت ابنتي من على الطاولة نفس كوب العصير ، أخذتني العزة ، والطغيان ، ولطمتها بعنفوان ، فأصاب المسكينة ارتجاج ، وركضت بها إلى المستشفى ، لكن قد فات الأوان .
ولم أتمالك نفسي فرحت أجهش في بكاء ، وتفيض دموع الندم ، والحسرة ، من عين الكبرياء ، وهو يواسيني ، ولما تمالكت نفسي رحت أمسح بيدي دموعي ، التي حفرت من غزارتها خدودي ورحت أكمل قائلاً :
- لم أصدق ما جرى ، وأدركت عظيم قسوتي ، وحجم حقارتي ، وكيف أني بررت لنفسي استخدام فرط قوتي ، مع فلذة كبدتي ، بدمع الفراق غسلتها ، وبرموش العين كفنتها ، وبروحي القبر أنزلتها ، وهمست في أذنها ، وأنا أمسح بيدي على وجهها ، إني لن أتركها أبداً في هذه الظلمات ، وسأبقى معها حتى يأتيني الممات ، وبقيت على العهد أيام ثلاث ، وأنا أقيم على مشهد قبرها ، وأحضر لها الماء والطعام ، وأقسمت لها أني سأغنيها ، عن مر الحاجة ، وذل السؤال ؟ ولما أصابني إرهاق ، عدت إلى المنزل أختطف بعض الارتياح ، وهيهات ، هيهات ، فوجه بنيتي راح يطاردني بإلحاح ، وودت لو قطعت اليد التي طاوعتني ربما أرتاح ، فعدت إلى قبرها ، وكلي لهفة واشتياق ، وإذا بالطعام قد نفذ ، والشراب راح ؟! ووجدت على القبر منقوشاً كلام ، أريد منك يا أبي بعض الحاجيات ، فرحت أصيح لبيك بنيتي ، وأحضرت ما تريد ، وصرت أزورها كل أسبوع ، وأجد على القبر نفس الكلام المنقوش ، أبي بدأت المدرسة ، أحضر الكتب والكراسة ، وقلم ومحاية ، ولا تنس ممشطتي ، والمرآة ، وأنا تملأني سعادة ، صدق حدسي ، بنيتي تحيى تحت التراب ، ورحت ألبي ما تطلبه ؟!
ومصمص الرجل شفتيه ساخراً ، وفي عينيه نظرة المكذب ، لكني رحت أكمل وأقول :
- وكبرت بنيتي ، وانتقلت من مرحلة إلى مرحلة ، وأنا آتيها بكتبها ، وعاماً وراء عام ، كانت دائماً تنجح في الامتحان ، وتجتاز كل السنوات ، وتنقش على القبر ، أريد هدية ، فقد طلعت الأولى ، وأنا أحلق بجناحين من السعادة ، وأصيح بنيتي لا تزال موجودة ، ويمر عام ، وراءه عام ، وطلباتها تكبر ، وتزداد ، ولا أجد في سبيل تحقيقها أي شقاء ، أو ذرة من عناء ، حتى ذهبت إليها يوماً كما هو معتاد ، فلم أجد نقش على القبر ، ولا أي كلام ، فصرت كالمجنون ، أبحث عن رسالتها المنقوشة ، ربما في أي مكان ، وإذا ببنية أمامي شابة ، في قوامها ملفوفة ، كأنها بنيتي ، ولكنها ليست كذلك ، قبلتني على رأسي ، وهدتني وردة جميلة ، وشكرتني قائلة ( أنا يتيمة ) وأدركت الحقيقة ، وأن بنيتي قد ماتت ، وأنني ربيت اليتيمة ، وكفلت بعدها سبعمائة يتيمة ، وكلهن الآن موقرات في بيوتهن ، ولا أدعي أني كفرت الخطيئة ، فخطيئتي بحجم حبي لبنيتي ، وحبها ليس له في قلبي حد !!
وإذا بكوب العصير من جديد يطيح ، ويفيض على الطاولة ، ويلطخ الثياب ، وكاد الرجل أن يصيح ، فارتمت الطفلة في أحضاني ، ولفت ذراعاها حول رقبتي باستغاثة ، ولكن كانت الدموع التي تنهمر من عيني الأب المفتون ، تبرد قلبه ، وتزيل الغشاوة ، فراح يصيح بفرحة وسعادة :
- فداءك يا بنيتي تريليون كوباً من ا لعصير !!
ومسح بيديه على شعر بنيته ، حتى ارتمت في أحضانه ، وبقى دفيء صدرها ، وحلاوة ملمس ذراعها ، حول رقبتي ، وكأن روح ابنتي ، باتت تحوطني ، فربما سامحتني ؟؟!!
تمت ،،،،

الخطيب الأخرس - قصة قصيرة

الخطيب الأخرس
قصة قصيرة
كتبها : أحمد كمال
( فيلسوف القصة )
انطلقت بسيارتي نحو المكان ، حيث الفجور ، والفسوق ، والعصيان ، وإذا بسيارتي تلهث ، وتتوقف ، وتأبى إلا الثبات ، ترجلت ، وفي غضب رحت اركلها ، وفي يأس رحت ألطمها، وفي استسلام رحت أتفل عليها ، فردت علي بوابل من الدخان الكثيف ملأ الأرجاء ، فتلاشيت فيه ، ورحت أذوب ، وأذوب ، وكاد يدركني اختناق ، وداهمني سعال ، فجثوت على الأرض وأنا أختنق ، ومن لهيب الشمس أصبحت أحترق ، واستسلمت لهلاكي ، وأنا أتمنى انتظار ، ومن هذا المأزق نجاة ، وغلبني النعاس ، فأغمضت عيني مستسلما.
استيقظت ربما بعد لحظات ، أو ساعات ، ولا تزال سيارتي راقدة في ثبات ، ولا تزال الشمس في كبد السماء ، احترت في أمري ، حتى داهمني وحشاً مخيفاً رأيته من الأسفل لأول مرة ، ولكني سرعان ما أدركت إنها جاموسة ، بحلقت في مندهشة ، حتى قال سائقها في نفس دهشتها :
- الجمعة يا أستاذ ؟! .... لا تفوتك بركتها .
تحسست رأسي بإعياء ، وأصلحت هندامي باستعجال ، ووقفت متصنعاً الهمة والنشاط ، ورحت أخطو باحتاً عن فني سيارات ، ويخترق أم أذني صوت الآذان ، ولا عقل يجيب ، ولا قلب لهفان ، فأنا ربما لست بإنسان ، وأغلقت في وجهي كل الأبواب ، فكل أهل القرية في المسجد ، يؤدون شعائر الصلاة ، فرحت إلى المسجد عسى أن أقنع مصلح السيارات أن يأتي معي وسأهبه ما يشاء ، بل أكثر مما يشاء ، وبينما أناديه ببعض البحات ، والصفير والغمزات ، والتلويح ، والإشارات ، إذا بأحدهم يدفعني لداخل المسجد صائحاً :
- لقد وصل الإمام ... أقيموا الصلاة .
ارتجفت خيفة ، وأصابتني رعشة ، تلتها رجفات ، والناس في المسجد تدفعني نحو المنبر ، بكل خفة وحماس ، ولا جدوى من اعتراضي ، وتبخرت مقاومتي ، ووجدت قدمي على وجه المنبر ، يصافح أولى الدرجات ، تراجعت من فوري ، والتفت خلفي ، فالناس محتشدة ، وللصلاة مجتمعة ، وغاب الإمام ، فأصبحت أنا ذاك الإمام ، ولبأس الإمام ؟!
نظرت إلى المنبر ، فرأيت عملاق ، وأنا قزم آن له أن يتسلق ذاك العملاق ، وداهمتني الذكريات ، ففي مثل هذا المكان وقف الرسول عليه الصلاة والسلام ، وكثيراً من الصحابة ، وعدد غير محدوداً من الصالحين ، والأخيار ، وبت أتساءل إلى أين سوف تقودني الأقدار ؟! فأغمضت عيني وأنا أستحي من الرحمن ، وفاضت من عيني دموعاً ، اغتسلت بها ، وتطهرت من الآثام ، وتوضأت للصلاة ، ورحت أصعد الدرج وأنا في قلبي خفقان ، يكبر الرحمن ، حتى جلست على قمة المنبر ، وراح المؤذن ينادي ، مرة ثانية إلى الصلاة ، فتدافع إلى المسجد عشرات الأشخاص ، في ثياب بيض، وعلى رؤوسهم عمم خضراء ، ويشع من وجوههم نوراً ، تخشع له الأبصار ، استغربت ، واستعجب كل من رآهم ، فلم يكونوا من تلك الديار ، ولما انتهى الآذان ، قمت لأقول ، وعقلي دارك ، وقلبي عامر ، إلا أن لساني أبى الحراك ، وتقطعت أحبال حنجرتي الصوتية ، وكاد أن يصيبني إغماء ، فقبلت يدي شاكراً الرحمن ، وضربت على قلبي وأنا أجهش في البكاء ، وألوح بيدي ، وأشير بأصبعي ، أن وحدوا الله ، ورحت أتحسس شفتي ، وأبللهما بدموع الخشوع ، والرضوخ ، والخضوع ، والانصياع ، وتعالت في المسجد غمغمات ، فهمهمات ، حتى صار لغاط ، فرحت أشير بأصبعي لينظروا إلي ، وأنا أدعو للسماء ، ليفهمني كل هؤلاء ، وأنا لا زلت أجهش في بكاء ، ورفعت كفي متذللاً أن أدعوا الله ، فساد صمت ، تلاه سكون ، وراح كل من في المسجد يدعون .
وقمت أقبل كفي ، أن الحمد لله ، وأنظر إلى السماء ، راجياً رحمة ، آملاً نجاة ، وأنا أشعر بروحي تحلق في السماء ، وكأن رحمة ما تحوطني ، ومغفرة أصابتني من الإله ، فرحت ابتسم ، وانتحب في آن ، وبينما ارفع كفي بالدعاء ، يصيح كل من في المسجد آميــــن ، وشعرت إني تحوصلت داخل ثوباً أبيضاً من النقاء ، ورحت أسموا نحو السماء ، وتقدس روحي حبيبها الإله ، وأدركت كم حقارتي ، وعظيم خسارتي ، من فعل الفسق ، والفجور ، والعصيان .
ولما نزلت عن المنبر ، كان أهل القرية في المسجد يجهشون بالبكاء ، ويصيحون موحدين الإله ، ويمدحون خطبتي ؟! وأصلحت سيارتي ، وبدأت رحلتي ، ولم أنس ، ولن ينس ، أهل القرية ،يوم جاءهم ، الخطيب الأخرس ؟!
تمت،،،

السبت، 24 أكتوبر 2009

رماد جثث خالدة - قصة قصيرة

رماد جثث خالدة
قصة قصيرة
كتبها :أحمد كمال
( فيلسوف القصة )
كان يتقلب على الفراش ، تحت الغطاء ، في غرفة جدرانها سوداء ، وستائرها رمداء ، وأرضيتها حمراء ، وسقفها تقطر منه الدماء ؟!
رن جرس المنبه كما تعود في الصباح ، فاستيقظ بعنفوان ، يتأمل حلته الرسمية ، وأوسمته الذهبية ، ويتثاءب ويتنطع كالذئاب ، ثم نهض متجهاً نحو الحمام ، بينما حارسه المدجج بالسلاح يضع الجرائد اليومية ، وينصرف قبل أن يناله الجزاء ، من سيادة اللواء .
خرج الرجل وقد شب في جسده نشاط ، وجلس على حافة الفراش ، يقلب الجرائد اليومية ، وإذا به يفاجأ بصورته في صدر الصفحات، وكتب عليها عنوان ( اليوم الذكرى السنوية لموت سعادة اللواء ، وسرادق العزاء في كل البلاد ) داهمته دهشة ، أدركه استغراب ، وراح يتمتم قائلاً :
- كيف أموت وأنا لا زلت على قيد الحياة ؟!
فراح يمسك جواله ويدق رقم رئيس التحرير وهو في قمة الاستياء ، ولما جاءه المجيب قال في استعلاء :
- كيف يا هذا تنشر مثل هكذا أخبار ، أنت تدعي إني ميت ، ولكني لا زلت على قيد الحياة ؟؟!!
فرد عليه رئيس التحرير بصوت مرتعشاً مرتاب :
- يا سيدي ربما إنك لا تعلم ولكن صار هذا منذ عشرات السنوات !!
ازدادت دهشة الرجل فأنهى المكالمة وراح يجيء في الغرفة ويذهب ، وهو يصيح بصوت مشروخاً مثل قطع الزجاج :
- كيف إني ميت ، ولا زلت على قيد الحياة ؟!!
فراح يمسك بالهاتف ويدق الأرقام ، ويطلب الأصدقاء ويأتيه العزاء تلو العزاء :
- أحسن الله عزاءك ، يا أعز الأصدقاء
فيصيح فيهم بالرفض والصراخ :
- كيف إني ميت ولا زلت على قيد الحياة !!
فيأتيه الرد من أصوات جوفاء :
- لقد حدث هذا منذ عشرات السنوات ؟؟!!
وراح الرجل يشعر باختناق ، ويضيق صدره ، وتصيبه نوبة هياج ، فراح يحطم كل ما يراه ، وما تطله يداه ، ويصيح كالأنثى في المخاض :
- كيف أني ميت ولا زلت على قيد الحياة ؟!
حتى خارت قواه ، ولمع في ذهنه المعتق ، خمر نجاة ، وراح يصيح :
- لسوف أسأل الأموات ، فربما إني ميت على قيد الحياة ؟!
وراح يركض نحو القبو ، حيث عشرات الجثث ، كانت أجساد ، مشتعلة بالحياة ، ماتت من العذاب ، وراح يقطعها حتى جعل أكبر قطعة فيها فتات ، ثم أحرقها ، وتحولت إلى رماد ، ولم يكتف بهذا بل احتفظ بها ذكرى في زجاجات ، ولا يعلم أحداً عنها ، حتى العائلات ؟!
ولما وصل إلى القبو صاح ، وصوته اقرب إلى النواح :
- يا أعداء البلاد .... هل أنا ميت ؟! .... أم لا زلت على قيد الحياة ؟!
وإذا بعشرات الزجاجات تنفجر ، وتتناثر شظايا الرماد ، والرجل بعنفوانه ينبطح ، ويدفن رأسه بين ذراعيه كالنعام ، ويبكي ، ينتحب ، كما الشمع عندما يحترق ، ولما هدأ الانفجار ، راح يرفع رأسه عالياً ، وينفض عن رأسه الرماد ، ولكن لم يجد على رأسه ، ولا ثيابه أي أثراً ، لأي رماد ، وإذا بالرماد ماثلاً أمامه ، على شكل إنسان ، في حجم أضعاف حجمه ، يتلألأ بالضياء ، وألوان خضراء ، وعلى شفتيه ابتسامة الانتصار ، وقال عملاق الرماد بخفة واستهتار :
- ماذا تريد بعد يا أيها الوحش المهتاج ؟!
فصمت الرجل ... وراح يذوب روعه ، ويتحضر نفسه ، ثم قال في انكسار :
- يا أيها الشهداء .... هل أنا ميت ؟! .... أم لا زلت على قيد الحياة ؟!
فقال عملاق الرماد ، بصوت العزة ، والإشفاق :
- أنت من اختار، مر الانتقال ، من سجلات الآدمية ، إلى سجل الوحشية .... فأصبحت ميت ....ولا زلت على قيد الحياة ؟!
وأيقن الرجل معنى الجواب ، فراح يرتدي حلته الرسمية ، ويعلق أوسمته الذهبية ، ويتلقى العزاء ، في روحه الآدمية ، من نفسه الوحشية
تمت،،،،

الخميس، 22 أكتوبر 2009

ثورة أبو الهول - قصة قصيرة

ثورة أبو الهول
قصة قصيرة
كتبها: أحمد كمال
( فيلسوف القصة )
ضاقت بي الدنيا ، وشعرت باختناق ، فسرت حيث لا أدري ، وأنا أشهق فساد ، وأزفر رماد ، وفي الصدر نار الحسرة والامتعاض ، حتى دنوت من الأهرامات ، وومضت في قلبي ومضة اشتياق ، لأبي الهول فربما هو الملاذ ، وبناه الأجداد ليحرس البلاد من الأعداء ، من العباد ، وربما من الفساد ؟!
تسارعت خطواتي ، وتلاحقت أنفاسي ، وأنا من حماس إلى حماس ، حتى وقفت على بعد خطوات ، وأنا ألتقط أنفاسي بالكاد ، وصحت فيه مستغيثاً قائلاً باستعطاف :
- يا أبا الهول ... يا حارس صمد عبر الزمان .
وإذا بصوت زئير يتداعى على استحياء ، لا أكاد اسمعه ، لكني ارتعدت رعباً وتصنعت الإباء ، وواصلت الصياح :
- يا أبا الهول ... أنا المصري ... كما تراني ... جائع ... بلا زاد ... ولا زواد ... وهناك غيري لاجئين في كل البلاد ... وكلنا ضحايا ما يسمى بالفساد ؟!
وإذا بصوت الزئير يزداد ، حتى يسبب زلزال ، فركضت هارباً ، مولياً الأدبار ، هائماً على وجهي نحو لا مكان ، حتى ناداني صوتاً جهورياً جبار ، لا يخلو منه الحنان قائلاً :
- عد يا هذا وأكمل شكواك ! ! !
فتجمدت مكاني ، وأنا لا أقوى على الالتفات ، ولكني شحذت لساني وواصلت الكلام :
- أنقذنا يا أبا الهول من عصبة الفساد .
فسأل مستغرباً :
- ألا يزال فرعون حاكم ؟!
فأجبت وأنا أرتجف :
- ويسمى رئيس جمهورية !
فسأل مجدداً :
- وهامان ؟!
فأجبته مسرعاً :
- ويسمى رئيس وزراء !!
فسأل مجدداً :
- وقارون ؟!
فأجبت ساخراً :
- ويسمى رجل أعمال
فسأل باستغراب :
- وأين موسى ؟!
فأجبت بامتعاض :
- ليس هنا .
فسأل باندهاش :
- وأين عصاه ؟!
فرددت متحسراً :
- غير موجودة !!
فسأل مجدداً :
- وبني إسرائيل ؟!
فقلت باكياً :
- على الحدود، متربصون !
فسأل وقد داهم صوته حشرجة البكاء :
- والرعية ؟!
فأجبت منتحباً :
- كما ترى منسية !!
فساد صمت ، تلاه اهتزاز ، وكأن الأرض من خلفي تتشقق وتزال ، وأنا لا أقوى على الالتفات ، حتى شعرت بشيء عظيماً خلفي ، يتحسسني باشتياق ، فرحت أستدير بحذر واحتراس ، فإذا بأبي الهول واقفاً على قدميه ، أسد بوجه إنسان ، وارتسمت على شفتيه ابتسامة ليس لها عنوان ، وفاضت من عينيه دموعاً لها بريق وهاج ، وسألني مجدداً بصوته الجهوري الجبار ، الذي لا يخلو من الحنان قائلاً :
- يا مصري ماذا تريد حتى ترتاح ؟!
فأجبت بشيء من الشجاعة الجوفاء :
- أريد حرية ؟!
فهز رأسه ... وغمز بعينيه باستغراب ، فواصلت قائلاً :
- كيف أكون حراً وأنا لا زلت أخاف ؟!
فهز برأسه موافقاً ثم قال :
- وماذا أيضاً ؟
فأجبته بلهفة واشتياق :
- أريد عدلاً !!
فهز برأسه غاضباً ... ولكني واصلت قائلاً :
- كيف يكون العدل ... وأنا لا زلت جائعاً ؟؟!!
وهز برأسه موافقاً ، ثم قال :
- وماذا أيضاً ؟!
فأجبته بسرعة اللهفان :
- أريد مساواة !!
فهز رأسه رافضاً ، وهو يبحلق في متشكك ، فواصلت قائلاً :
- كيف تكون المساواة ... ولا زلت عاطلاً ؟؟!!
فهز برأسه متأسفاً ، وزاغت عيناه على استحياء ، حتى قال :
- وماذا أيضاً ؟
فأجبت متطلعاً :
- أريد تعددية ؟!!
فأشاح بوجهه عني متأففاً ، حتى واصلت قائلاً :
- كيف تكون التعددية ... ولا زلت جاهلاً ؟؟!!
فرنا ببصره نحوي ، وراح يهز برأسه موافقاً ثم قال :
- وماذا أيضاً ؟
فأجبته متجرئاً :
- أريد تداول سلطة ؟!
فدنا بوجهه الضخم من جسدي الهزيل ، ونظر إلي متشنج ، فواصلت وأنا أصيح :
- حتى ننهي عصر الفراعين!!
فأغمض عينيه ، وراح يهز رأسه موافقاً ، ثم فتحهما وهو في التفكير مستغرقاً ، ثم قال :
- وماذا أيضاً ؟!
فصمت لبرهة ، وهززت برأسي مستكفياً ، فجثا على ركبتيه مستأنساً ، ودعاني لأمتطي ظهره متشرفاً ، ولما فعلت شعرت بالدنيا تتلألأ من حولي مستعرضة ، وقام وراح يركض ، وهو يزأر قائلاً :
- لا بد من زلزال ... يحقق لك كل المحال !!
وبينما وجهي يصارع الهواء ، لأول مرة أتنفس بنقاء ، ورحت أصيح بصراخ :
- هيا يا أبا الهول ، زلزل الأرض من تحت الأقدام !!
وراح يدمر عرش فرعون ، ومقر هامان ، ويشرد كل قارون في البلاد ، ويسحق كل النجمات ، والنسور ، والصقور ، والسيوف ، والتيجان ، ويطلق الأحرار ، وينسف الأشرار ، حتى دنت بين يديه كل البلاد ، فجثا على ركبتيه ، وقد بدا علي وجهه الإرهاق ، فنزلت عن ظهره ، وأنا أتحسس جسده الصخري الأخاذ ، ولكنه عاد واقفاً ، بنفس الهمة والنشاط ، قائلاً بحماس :
- أنا على الحدود الشرقية ، أنتظر اللقاء ؟!!
فتبسمت له ابتسامة عشق قوية قائلاً :
- وأنا في قلعة صلاح الدين ... أزرع إنسان .... وسألحق بك يوم الحصاد ؟!
فهز برأسه وهو يزأر موافقاً ، ومودعاً ، وراح يركض نحو شمس تشرق على البلاد .
تمت ،،،

أبراج متوحشة - قصة قصيرة

أبراج متوحشة
قصه قصيرة
كتبها أحمد كمال (فيلسوف القصة)

كان لي بيتاً صغيراً ، في حقل كبير ، وأنا بهما سعيد ، بنيته من طين أديم الأرض ، في الصيف تداعبك نسمات الهواء ، وفي الشتاء يؤويه دفئ الشمس وفيه غرف من ورائها غرف وأسفله قبو ، وفوق سطحه برج حمام ، فيه حمام نشيط ، يأتي من كل صوب ، في كل يوم ، ويذهب متى شاء ، ويأتي متى يريد ؟! ويحتضن البيت الصغير شجرة " توت " لها ظل عظيم ، تستظل به العصافير ، وتعشش عليها ، وتسكن فيه ، وهي في الوقت نفسه منبه رباني عظيم ، إذ في كل صباح تزقزق العصافير ، فتوقظ الميت مبتسماً على لحن سيمفوني جميل ، وأحاطت بالبيت أزهار الفل والياسمين فأشتم عبقها كأني في جنة الخالدين ، ولا أتعطر وأنا خارج بل أكتفي بالمرور بين عزة الفل ، وعنفوان الياسمين فأقبلهما قبلة تعطرني سنين ، وتناديني الأزهار بكل ألوانها لتصبح ، وأنا أسمع من داخلها أصوات طنين النحل ، وخلايا عسله ليست ببعيد ، وحول كل هذا حقلي الكبير ،، أزرعه بثمار القطن والقمح ، والفول والبرسيم ، وتحرسه أشجار النخل والتين والزيتون ، ويرويه نيل عظيم أراه من شرفتي يركض ، ليروي عطش السائلين ، وعمالي شهداء ، غرسوا البذرة وشدوا الحزام حول الخصر وتركوا الحصاد للاحقين ؟!
وذات يوماً آتاني رجل متقرقن أنيق ، في سيارة يقال لها "شبح" يرتدي ثياب المدينة ويفوح منه عطراً أبكى الفل ، وكاد أن يقتل الياسمين ، وألوان ثيابه أنف منها الورد وكاد أن يذبل لولا اللطف. أحاط به حرس مهيب ، طول ليس له بعد ، وعرض ليس بعده وسع ، لوثوا الهواء ، وسببوا اختناق ، نظرت وبه انبهرت ، وعليه أقبلت ، وبه في حقلي رحبت ، دقت نغمات جواله ، فشردت العصافير ، وأشعل سيجاره "الكوبي" الفخيم فزمجرت شجرة التوت تكاد أن تفترسه لولا أن لي عندها تقدير ، وعرض علي عرض .
- هيا بنا نسوي برج ، سيعود علينا بربح وفير .
وأردت أن أستريح ، وكل سلالتي من بعدي كذلك تستريح فوافقت ، وأنا لا أدرك أني أطيح ؟!
غزت الحقل عشرات المعدات الهمجية ، وآلاف العمال الوحشية يقتلعون كل الماضي ، ويدكون الحاضر ، ويسحقون مستقبلي بسرعة شيطانية ، وقام برج ، يليه برج ، يليه برج حتى انقطع السرج ، وسكنت شقه في أحد الأبراج ، وأموالي في البنك خذ منها ماتحتاج ، ولكني أصبحت لا أنام ؟! ففي كل ليله مع غروب الشمس يأتيني خطاب ، مرسل في لاشئ ، ولا يحوي إلا سؤال ، ماالذي فعلته ببيتي ؟ ولماذا قتلت حقلي المعطاء ؟... ولا جواب
وفي كل يوم يوشك أن يثور بداخلي بركان ، كل صباح أستيقظ على أبواق السيارات ، وأتطلع من شرفتي فأرى النهر يحتضر ، والعطر الذي ألفته أنفي لم يعد ، وآه ياشجرة "التوت" أسمع نحيبها كل ليلة كطفلة وئدتها في قبر الجاهلية وثار البركان ، وأنفجر الإنسان ، ورحت أمسك فأس ومعوال ، أضرب الإسفلت ، أحطم الجدران ، ولكن بعد لحظات أصابني إرهاق ، ودرت حول نفسي مشدوهاً ، أبكي ، أنتحب ، أضرب الخدود ، أقلب الكفوف ، وأرثى لحالي ورحت أصيح - أيتها الأبراج المتوحشة من جاء بك إلى هنا .
تمت ؛؛
قريباً في الأسواق مجموعتي القصصية (ذات تبحث عن نفسها) جزء أول ... دعواتكم

الجمعة، 16 أكتوبر 2009

بيت آدم - قصة قصيرة

بيت آدم
قصة قصيرة
كتبها : أحمد كمال
اشتقت إلى هويتي ، فسافرت إلى قريتي ، لاجئاً إلى بيت جدي ، بناه آدم قبل حصر السنين ، على قمة جبل التائبين ، وظل ينادي أبناءه ، وأحفاده ، وما من مجيب ، ومضى آدم ، وبقى بيته ؟! .
انقطع الطريق ، وأصبحت مجبراً على الترجل والصعود بدون سيارة ، وكانت الشمس تتوارى ، ولما نظرت لمكمن البيت ، هالني شاهق ارتفاعه ، ووعورة الطريق ، فهمست في نفسي قائلاً :
- هذا الطريق الوحيد ، لمن يريد أن يعود للدنيا وليد !.
فشحذت عزيمتي ، وشددت أزري ، ورحت أخطوا، أسير، ، أركض ، أطوي الأرض طيا ، عسى أن أصل وأستريح . وبعد عناء ويزيد ، تفصد جسدي عرقاً غزيراً ، وأنهكت قواي ، وعصتني قدماي ، فجثوت على ركبتي ، ورحت أتقدم بثقل شديد ، وأنا أرنو بعيني نحو بيت جدي ، على قمة جبل التائبين .
وبعد وقت ليس بقصير ، انجرف صخر ، وراح يهوى من علي ، ورحت أتفاداه بما أوتيت ، وأدركت إني هالك لا محالة ، حتى آواني نتوء صخري صغير ، فراح الصخر يهوى ، وخفقان قلبي يستغيث .
ولما فرغ الجبل من مخاضه ، وأنجب كل صخراته ، أكملت المسير ، وأنا أحبو كطفل شارد ، ضائع ، يتيم ؟! تاه عن أمه ، في ظلام دامس ، يشتم عبقها ، ويحبوا نحوها ، بحماس شديد، وإذا بقط أسود سمين ، له عينان حمرا وتين ، ينقض على ظهري ، ويمزق ثيابي بأظافره القاسية ، وينال من جلدي الرقيق ، ويحفر عشرات الخرابيش ، وتنساب من بين المسام فيض من الدماء ، وتكبر آلامي ، وتتضاءل آمالي ، في الوصول ، ولا يزال القط الأسود السمين ، يسعى لإيقافي ، فإذا به يقضم أذني ، وأنا أتأوه مستغيث ، وتومض في قلبي شجاعة ، فأمسكت برقبته والغيظ يملأني ، وطوحته بعيداً عني ، فراح يموء ،و يموء ، حتى تلاشى المواء .
تبددت كل طاقتي ، فرحت أزحف على بطني ، وقد دنوت من بيت جدي ، وإذا بثعبان عظيم ، يلفني من كل جانب ، ويعتصرني بإصرار عجيب ، ويفتح فمه ، وينفث سمه ، يريد أن يبتلعني ، كما ابتلع آخرين ، وكلما كاد أن يبتلعني أهرب ، ثم يقبض ، ثم أهرب ، ثم أسقط ، حتى أمسكت يدي بحجر صوان ، صوبته إلى فتحة فمه المتوحش ، أصابه ، فراح يتلوى ، ثم يلتف حول نفسه ، ثم زحف نحو بعيد عني .
التقطت أنفاسي ، وحمدت من يحمد ، ورحت أستجمع قواي ، ووقفت على قدمي ، وأنا أدس يدي في جيب سروالي ، لأخرج مفتاح بيت جدي ، وأفتح البوابة ، وإذا بشيء رهيب ، له جسد من صهد صهر الحديد ، يغطيه شعر غزير ، وشعر رأسه كثيف ، طويل ، له قرنان محل الحاجبين ، وعين كبيرة في وسط وجهه القبيح ، أذناه تعدت حدود رأسه ، وفتحت فمه من أذنه اليسار إلى أذنه اليمين ، وقال بصوت له صدى عظيم :
- يا ابن آدم ماذا تريد ؟!
فرددت وأنا أرتعد خوفاً ، وتصطك فرائصي قائلاً :
- أريد بيت آدم ... فأنا له حفيد .
فقهقه قهقهة مزلزلة ، اهتز الجبل منها ، وكاد البيت أن يطيح ، حتى قال ساخراً :
- ولكن عليك أن تدفع ثمناً ؟!
فرددت وأنا أرتجف رعباً متوسلاً :
- لك ما تريد .... وما لا تريد .... فقط أتركني .
فهز برأسه ، وراح يمسك بذقنه ، وقال بصوت جهوري خبيث :
- فقط .... أريدك .... أن .... تسجد .... لي .
فأسرعت من فوري ، أجثو على ركبتي ، واتكأ على زراعي ، وأنا أدنو برأسي من الأرض ساجداً له ، فقد ابتلعني رعب عظيم ، وهو يقهقه بفخر شديد ، وإذا بسلامة فطرتي تردني ، ويأبى وجهي السجود لغير المعبود ، ورحت فجأة أصيح :
- يا مغيث .... يا مغيث .
فراح يتلفت خائفاً ، وأنا أتطلع لبيت جدي متشوقاً ، وإذا بمن يفتح البوابة ، ويصوب نحو هذا الشيء تفاحة ، أصابته في رأسه ، فجثا على ركبتيه ، وراح يعوي كالذئاب ، حتى أصابته مرة أخرى تفاحة ، طرحته أرضاً ، وألقته براً ، وهو يتدحرج بمرارة ، وإذا بمن يلوح لي من خلف البوابة ، يشير مرحباً هيا تعالى ، ورحت أقترب ، ثم أقترب ، فإذا بجدي آدم وجدتي حواء ، ينتظروني خلف الأبواب ، متلهفين للقائي كما أتلهف ، عاليهم ثياب بيض كاللبن الحليب ، وما أن تلاقينا ، حتى في الأحضان ارتمينا ، وأنا لا أصدق عيني ، إنني في بيت جدي .... على قمة جبل التائبين .
انتهى

أصدقاء ( دوت كوم) - قصة قصيرة

أصدقاء ( دوت كوم )
قصة قصيرة
كتبها : أحمد كمال
منذ الصباح وأنا أدور كالنحلة ، في هذه القاعة الفاخرة ، بالفندق الكبير ، فاليوم عيد ميلادي الستين .
أصبح كل شيء معداً لاستقبالهم ، أصدقائي وصديقاتي ، فهذه أول مرة أقابلهم وجهاً لوجه ، ربما هذا شيء غريب ، لكنني منذ عشرة آلاف يوم ، اشتريت حاسوب ، وعلمني أحد أحفادي كيفية استخدامه حتى إتقانه ، وأدمنت تصفح الشبكة العنكبوتية ، حتى صارت عالمي الجديد ، ومتنفس روحي الوحيد ، ولأن ليس لي في هذه الدنيا صديق بحق وحقيق ، كونت صداقات لها بعد عميق في عالم الشبكة الفسيح ، واليوم دعوتهم لحضور حفل عيد ميلادي بدلاً من أن أحتفل به وحيد ؟!
كم أبحرت في حروف كلماتهم ، وغصت في معاني عباراتهم ، وأحياناً إلتئمت في ألعابهم ، حتى تمنيت من أعماق وجداني ، قبل مماتي لقائهم ، وبعد إلحاح ، أصبح الحلم مباح ، وهاهم على وشك المجيء .
بعد قليل سأرى وجوههم ، وأستمع إلى أصواتهم ، واشتم عبق أنفاسهم ، وأصافح بيدي أياديهم ، إنها ليلة عمري ، ومفاجأة حياتي ، ورهاني على عشرة آلاف يوم أنفقتها عليهم ؟!
ومع غروب الشمس أشرقت شمس أصدقائي ، وبدأت أتلقى صدماتي ، الصدمة تلو الأخرى ، فالوجوه ليست كما تخيلتها ، أو ربما تمنيتها ؟! والأجساد هياكل صماء كاذبة لأسمائهم المزيفة ، ولكني لا زلت ألمح في لمعان أعينهم بعضاً من توهجاتي .
امتلأت القاعة بالحضور ، وامتزجت ألوانهم في تمثال من صلصال ، تزين بكل لون ، أبيض ، أصفر ، أحمر ، أسود ، أشقر ، وكأن آدم قد عاد للوجود ، وألسنتهم بكل اللغات تجود ، وسرعان ما تآلفوا بعد قليلاً من السخرية ، وهم لدعوتي يمدحون ، ولي يشكرون .
رحت أتأمل الحفل والحضور ، وبينهم أحاول أن أجول ، بلا فائدة . فخيبة الأمل ذبحتني بالشجون ، وأدركني إحباط مجنون ، حتى أيقنت إني مفتون ؟!
وقبل أن نطفئ الشموع ، شعرت بدقات قلبي تتباطأ في هدوء ، وجسدي رغماً عني ينشطر لنصفين كالموبوء ، نصف على خط الاستواء يصطلي بشمس الظهيرة ، ونصف على أحد القطبين تجمد كالمياه الأسيرة ، وصار نصف وجهي يتصبب عرقاً ، والنصف الآخر يرتعد برداً ، ولما لم يتحمل جسدي هذا التناقض ، رحت اصرخ وأنا اسقط كالذبيحة .
التئم حولي ، كل من خيبوا ظني ، وأصابتهم فجيعة ، وكست وجوههم كل ملامح البشرية الحزينة ، وفاحت من أفواههم كل عبارات المواساة الحكيمة ، بكل اللغات ، بكل اللهجات :
- حمداً لله على سلامتك .....
رحت أتلاشى ، حتى إني لم أعد شيئاً ، وقابلت أنا منذ عشرة آلاف يوماً ، متأنقاً كالعادة ، ومتغطرساً بزيادة ؟! فسألته :
- من هؤلاء يا أنا ؟ لقد خاب ظني هنا ؟
فتبسم ، ثم مني دنا ، وهمس في أذني قائلاً :
- هؤلاء هم أصدقائك ، فرحب بكل من جاءك !
فثرت فيه غاضباً وأنا ادفعه بعيداً عني قائلاً :
- لا .... إنهم ليسو كذلك .... أو ربما أني أظن ذلك ؟!
فأمسك بلحيتي بين راحة كفه ، وجذبني بقوة إليه صارخاً في وجهي قائلاً :
- وهل تريد أصدقاءاً بمقاس قدميك ؟!! أبحر في عقولهم ، وغص في قلوبهم ، ستدرك حتماً أرواحهم ، وأنهم هم أنفسهم أصدقائك .
وإذا بأنفي يجزع من رائحة البصل النفاذة ، فعدت من تلاشيا شيئاً فشيئاً ، وأنا أنظر إليهم بسعادة ، ولما ارتسمت على شفتي ابتسامة ، ارتسمت على شفاههم أصدق ابتسامة ، بكل ألوان السعادة البشرية ، ولمحت في لهفتهم براءة ، وصدق الصداقة ، في لوحة شبه خلاقة ، تلتها مني استفاقة .
ولما أطفأنا النور ، وأضاء القاعة ضوء الشموع ، رأيت أرواحهم من حولي ترفرف بخفة ورشاقة ، وأطلقت زفيراً قوياً لأطفئ الشموع وأنا أقول لأنا :
- كم أنا محظوظ !!
انتهى