إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأحد، 23 يناير 2011

( وهــــن الـــرايـــــات )

قصة قصيرة كتبها :ـ أحمد كمال * أنا إنسان ، انتمي لهذا المكان ، أعمل طبيب في وطن الفقر والحرمان ، يجري فيه نيل من الجنوب إلى الشمال ، ويستورد أبنائه من الخارج معظم الغذاء، أدُرك كم يبلغ غناه
، فهو يسرق منذُ بدأ الزمان ، ولا تزال خزانته عامرة ً لمزيد من الجناة ، ويدخر المزيد لمن يريد لهذا الشعب النجاة ، جلست ُ أمام التلفاز ، وبيدي مقلب القنوات ، أريد الفرار بأذني من تلك الأنات ، التي توجع قلبي في كل صباح ومساء ، ومن المساء حتى الصباح ، من مرضى أغلبهم ضعفاء ، وكلهم فقراء ، وجلهم عظماء ، ما بخلو يوماً على ذلك المكان ، وما أصابهم إلا حزب الفساد ، أشعر بقهرٍ وأنا الطبيب ولا أملك في صيدلية المستشفى أي دواء ، يخفف عن هؤلاء المرضى تلك الآلام ، وينجيني من تأنيب ضميري في الدنيا ، وربما من حساب آت ، حتى رأيت المرضى يلوذون بالفرار ، يعلنون الثورة ، قرروا العصيان ، واختاروا الفوضى بديلاً عن الحرمان ، حاولت منعهم وأنا لا أخفي تشجيعهم ، تارةً أدعوهم للرجوع ، وتارات أُحفزهم للثورة ضد الجوع ، حتى وصلت للفناء ، ووجدت في وسطه الراية يحملها صاري وكلاهما أصابه إعياء ، لم يعد يحركهما الهواء ، رغم إنه أشبه بالعاصفة في كل المكان ، نظرت لأعلى أتأملها وأنا أقاوم رغبتي في التقيؤ من تلك الراية الجوفاء ، التي تجاوزها الزمن وأصابها الإعياء ، ولكني حرصت أن لا يصلها شعوري هذا فأصبح رقم خلف القضبان ، فإذا بالصاري يلفظ الراية ، فتترنح في الهواء ، وتسقط بعد مقاومة ، تلطخت بالطين ، وسمعت لها أنين كأنها تتوسلني أن أطببها وأن أعيدها إلى العلاء، وأنا في نفسي أردتُ أن أدوسها ، وأتخلص من عنفوانها ، ربما تتغير الأحوال ، وإذا بالتلفاز يصدح بموسيقاه ، منوها عن بيان هام ، أسرعت بخطواتي إلى داخل المستشفى وقد دست بحذائي على الراية الصماء ، وتسمرت أمام التلفاز وأنا أشاهد صور ، وأخبار ، وقال المذيع :ــ
ـــ لقد سقطت كل الرايات وانتحرت الشعارات وتداوى كل المرضى من نقاء الهواء ، وصحيح الغذاء ، وفرات الشراب .
قلبت كفيا ، ورحت أضرب خديا ، وأنا أصيح :ــ
ـــ ياويلاه ، أتنقلب الدنيا هكذا في لحظات !!
وأدركت أن المستشفى سوف يغص بالمصابين ، فأسرعت أعد العدة ، وأستدعي كل المعاونين ، وأخطب في الممرضين والممرضات أحفزهم على العمل ، ومعالجة كل الحالات ، راحوا ينظرون إلى بدهشة ، كأني مجنون هارب من الزمان ، وإذا ببوابة المكان تنفتح ، وتمر منها شاحنة كبيرة لا يبدوا عليها أحد ، ولكن سار خلفها جماهير غفيرة ، يقذفون مؤخرة الشاحنة ، بقذاف وفيرة ، من حبات الطماطم والبيض وأحذية بالية قديمة ، وترجل الحراس ، وإذا بهم يحملوا على السرير راية الرايات ، وهي في حالة يرثى لها ، أصابها الوهن ، وغلبها الزمن ، وثار عليها أبناء الوطن ، أسرعت أغيثها ، وأنا لا أخفي التشفي بها ، ولكني طبيب مهمتي علاج المرضى ، وبسرعة اصطحبتها إلى غرفة العناية الفائقة ، ركبت لها كل الأجهزة التي لا تعمل ، وأمرت بإحضار الأدوية غير الموجودة ، فارتسمت على شفتيها ابتسامة غير معهودة ، كأنها تدري أنني كذاب !! فرددت بضحكات هستيرية مجنونة ، وأنا اهتز كمن يدور في ساقية موتورة ، فتعالت ضحكاتها ، وتهاوت حتى اتضح بكائها ، واشتد نواحها ، فأشفقت على حالها وسألتها :ــ
ـــ ماذا أصابك يا راية الرايات ؟!
فقالت والوهن يخيم على صوتها :ــ
ــ تغير الزمان ، ودوام الحال من المحال !!
فطبطبت على رأسها ورق قلبي على ألمها وواسيتها قائلا :ــ
ــ كلنا سوف يذهب ، ويبقى الزمان ؟!
فقالت وهي تنتحب :ــ
ـــ لقد كنت صادقة ، وكذب الرجال !!
فأسرعت قائلاً :ــ
ــ فات الأوان !!
فإذا بها تصيح ::ـ
ــــ يا ولدي ، لقد جاءني المخاض .
باعدت بين ساقيها ، ورحت أحفزها لتدفع بوليدها الجديد ، تقطعت أنفاسها وراحت تتهاوى وتخفت ، حتى أمسكت بين يدي وليدها ، قلبته وضربت مؤخرته وأنا أمازحه قائلا :ــ
ـــ تأخرت علينا كثيرا أيتها النبيلة ، !!
ورحت أقترب من راية الرايات وأنا أبشرها بابنة جميلة ، فهزت لي رأسها وراحت تلملم نفسها ، وفردت الراية الوليدة مكانها ، وأنا أستبشر بها ، حتى احتشد كل الضعفاء ، وتسابقت الصواري ، وتسامت الشعارات ، تطلب من الراية الوليدة الاقتران ، فإذا بالراية تقول في شموخ :ـ
ـــ الإنسان سيد المكان ، وأنا له عنوان ، يخلق الأوطان ، هو الغاية ، والوسيلة ، ومنتهى الآمال .
فصاح كل من في المكان ، وتحول المستشفى إلى عرس كبير ، فانتهزت الفرصة كأني لست بطبيب ، وطلبت من الراية الوليدة الزواج ، فأشاحت بوجهها عني واحمرت وجنتاها خجلا ، وقالت :ــ
ـــ أستأذن ولي أمري !!
فنظرت لها مندهشاً وأنا أتمتم مستغرباً :ـــ
ـــ من هو ولي أمرك ؟!
فنظرت إلي وهي غاضبة وأنا لا زلت أنتظر إجابةً واضحة !!
تمت