إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الثلاثاء، 27 أكتوبر 2009

حديث القبور - قصة قصيرة

حديث القبور
قصة قصيرة
كتبها : أحمد كمال
( فيلسوف القصة )
في نفس المكان ، وإن اختلف الزمان ، (( كافيتريا )) السوق الكبير ، حيث الزحام ، واختلاط الأقدام ، وتلاصق الأجساد ، واسمع من بين الضجيج ، صوت نواح ، واستعطاف ملاك ، سبق وسمعته ، ولم أرق له ، اندفعت نحو الصوت يرشدني ، أزيح من أمامي كل ما يعطلني ، حتى وصلت ، نفس الطاولة ، نفس الأشخاص ، وإن اختلفت الأسماء ، وملامح الوجه ولغة اللسان ، تبكي ابنته ، ويضربها بقسوة ، بعد أن طوحت بغير مقصد كوب العصير ، فانقضضت عليه أمنعه ، وقد أصابه ذهول ، وراح يبحلق في كأني مجنون ؟! إلا إنه وقر شيب لحيتي ، وطعن سني ، فرحت أقول بتوسل وخضوع :
- لا تستقو على الضعيفة ، فيصبح الندم رفيقك ، حتى نهاية الخليقة .
فنظر إلي وقد ساده هدوء ، وخشع قلبه للدمع المسكوب ، من نبع عيني المغمور ، ثم رحت أقول :
- أتوسل إليك أمسك .... ولا تفقد ابنتك من أجل كوب عصير ؟!
فملأ الرجل خضوع ، ودعوته ليسمع قصتي ، وابنته في حضرتي ، أزدناها بكوب آخر من العصير ، ورحت أقص عليه قائلاً :
- قبل أن يشيب هذا الرأس ، كنت جالساً في نفس المكان ، معي زوجة ، وعندي ابنة ، أهداهما إلي الرحمن ، فطوحت ابنتي من على الطاولة نفس كوب العصير ، أخذتني العزة ، والطغيان ، ولطمتها بعنفوان ، فأصاب المسكينة ارتجاج ، وركضت بها إلى المستشفى ، لكن قد فات الأوان .
ولم أتمالك نفسي فرحت أجهش في بكاء ، وتفيض دموع الندم ، والحسرة ، من عين الكبرياء ، وهو يواسيني ، ولما تمالكت نفسي رحت أمسح بيدي دموعي ، التي حفرت من غزارتها خدودي ورحت أكمل قائلاً :
- لم أصدق ما جرى ، وأدركت عظيم قسوتي ، وحجم حقارتي ، وكيف أني بررت لنفسي استخدام فرط قوتي ، مع فلذة كبدتي ، بدمع الفراق غسلتها ، وبرموش العين كفنتها ، وبروحي القبر أنزلتها ، وهمست في أذنها ، وأنا أمسح بيدي على وجهها ، إني لن أتركها أبداً في هذه الظلمات ، وسأبقى معها حتى يأتيني الممات ، وبقيت على العهد أيام ثلاث ، وأنا أقيم على مشهد قبرها ، وأحضر لها الماء والطعام ، وأقسمت لها أني سأغنيها ، عن مر الحاجة ، وذل السؤال ؟ ولما أصابني إرهاق ، عدت إلى المنزل أختطف بعض الارتياح ، وهيهات ، هيهات ، فوجه بنيتي راح يطاردني بإلحاح ، وودت لو قطعت اليد التي طاوعتني ربما أرتاح ، فعدت إلى قبرها ، وكلي لهفة واشتياق ، وإذا بالطعام قد نفذ ، والشراب راح ؟! ووجدت على القبر منقوشاً كلام ، أريد منك يا أبي بعض الحاجيات ، فرحت أصيح لبيك بنيتي ، وأحضرت ما تريد ، وصرت أزورها كل أسبوع ، وأجد على القبر نفس الكلام المنقوش ، أبي بدأت المدرسة ، أحضر الكتب والكراسة ، وقلم ومحاية ، ولا تنس ممشطتي ، والمرآة ، وأنا تملأني سعادة ، صدق حدسي ، بنيتي تحيى تحت التراب ، ورحت ألبي ما تطلبه ؟!
ومصمص الرجل شفتيه ساخراً ، وفي عينيه نظرة المكذب ، لكني رحت أكمل وأقول :
- وكبرت بنيتي ، وانتقلت من مرحلة إلى مرحلة ، وأنا آتيها بكتبها ، وعاماً وراء عام ، كانت دائماً تنجح في الامتحان ، وتجتاز كل السنوات ، وتنقش على القبر ، أريد هدية ، فقد طلعت الأولى ، وأنا أحلق بجناحين من السعادة ، وأصيح بنيتي لا تزال موجودة ، ويمر عام ، وراءه عام ، وطلباتها تكبر ، وتزداد ، ولا أجد في سبيل تحقيقها أي شقاء ، أو ذرة من عناء ، حتى ذهبت إليها يوماً كما هو معتاد ، فلم أجد نقش على القبر ، ولا أي كلام ، فصرت كالمجنون ، أبحث عن رسالتها المنقوشة ، ربما في أي مكان ، وإذا ببنية أمامي شابة ، في قوامها ملفوفة ، كأنها بنيتي ، ولكنها ليست كذلك ، قبلتني على رأسي ، وهدتني وردة جميلة ، وشكرتني قائلة ( أنا يتيمة ) وأدركت الحقيقة ، وأن بنيتي قد ماتت ، وأنني ربيت اليتيمة ، وكفلت بعدها سبعمائة يتيمة ، وكلهن الآن موقرات في بيوتهن ، ولا أدعي أني كفرت الخطيئة ، فخطيئتي بحجم حبي لبنيتي ، وحبها ليس له في قلبي حد !!
وإذا بكوب العصير من جديد يطيح ، ويفيض على الطاولة ، ويلطخ الثياب ، وكاد الرجل أن يصيح ، فارتمت الطفلة في أحضاني ، ولفت ذراعاها حول رقبتي باستغاثة ، ولكن كانت الدموع التي تنهمر من عيني الأب المفتون ، تبرد قلبه ، وتزيل الغشاوة ، فراح يصيح بفرحة وسعادة :
- فداءك يا بنيتي تريليون كوباً من ا لعصير !!
ومسح بيديه على شعر بنيته ، حتى ارتمت في أحضانه ، وبقى دفيء صدرها ، وحلاوة ملمس ذراعها ، حول رقبتي ، وكأن روح ابنتي ، باتت تحوطني ، فربما سامحتني ؟؟!!
تمت ،،،،

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق