إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأحد، 26 يوليو 2009

قبلة على الإسفلت ؟!

قبلة على الإسفلت ؟!
قصة قصيرة
كتبها : أحمد كمال
تنفس الصبح ، وأشرقت الشمس ، وتجمع عمال الطرق ، بعشرات المعدات والآلات الضخمة ، ليمهدوا من جديد ، الطريق المهجور ، وسط العاصمة الزاهية ، وما أن بدأ العمل حتى تعطلت المعدات ، وانفجرت الإطارات ، وانصهرت المجنزرات ، ونزف العمال دماً غزيراً ، ففروا بلا عودة ، وهم يصيحون ، ويستغيثون .
وبقى الطريق كما هو مهجوراً ، ممتليء بحطام مئات السيارات المحترقة ، وعشرات ، العشرات من القطط ، والكلاب الضالة ، وخيمة منزوية على ناصية الطريق ، كسوتها مرقعة بألوان البشر ، أسفل إشارة المرور المضاءة باللون الأحمر منذ دهر ، أو دهور ولم تنطفيء .
وما أن إنتصفت الشمس في السماء ، حتى أتت سيارة فارهة ، ترجل منها رجل نال الزمن منه نيلاً ، فكسى الشيب رأسه ، ولحيته ، وتجعدت ملامح وجهه ، وبقى له وقاراً وهيبة ، وسار بخطاً حذرة ، نحو الخيمة البالية ، ينادي بصوت متداعي من أيام عاصية ، فخرج ساكن الخيمة بثياب رثة ، وشعور كثة ، ودهشة متناهية ، متسائلاً بصوت العاشق من أيام خالية :
- من أنت ؟ وكيف وصلت بسيارتك إلى هنا ولم تحترق ؟!
فنظر الآخر إليه نظرة شفقة بادية ، وأشعت من عينيه نظرة عطف آنية ، وصمت ، صمت البعير على مذابح الأزلام ، وراح ساكن الخيمة يدور من حوله ، ويتفحصه بعينين مبحلقتين ، والدهشة تكسوا وجهه ، ثم صاح
- أنت من أنتظر منذ الغروب ؟! أنت من تنتظره التي هانت وعلى قلبي لم تهون ؟!
فرد عليه الآخر والفضول قد تحكم فيه :
- أي ود هذا ؟ أنا أريد أن أعيد فتح الطريق ؟!
فقعد ساكن الخيمة على الأرض ، ونظر بعينيه إلى أعلى ، وإرتسمت على شفتيه إبتسامة قائلاً :
- رد للمهد حقه ، وصون الود ، ينفتح لك الطريق !!
فنظر الآخر مستغرباً ، إلا إنه قعد أمامه منصتاً بشغف ، ليقول ساكن الخيمة والدموع تتسلل من مؤقتيه :
- عثرنا عليها في ليلة قاسية ، ملفوفة في غطاء وثير، نظر كل من نظر إليها فأسرته بوجهها الأبيض كاللبن المصفى ، ونقاء روحها ، وطيب أنفاسها ، وتنازعنا على تربيتها ، في حي كل من فيه أسير ، لفقر متحكم ، ولكن بقى في قلوبنا العطاء واجد ،أسميناها ود ، ونمت أمام أعيننا كزرع مبارك ، في أرض طيبة ، وإكتست رأسها بشعر غزير كأنه المزج بين البيداء والجبل السقيم ، فتلمحها من بعيد فتعرفها من تاج رأسها الكثيف ، وصارت تسأل عن الرحم الذي حملها ، والنطفة التي أنبتتها ، ولا نجيب ، فنحن لا نعلم ما هويتها ، ولكن بالحب أحطناها ، ولا شيئاً منها نريد ، حتى تفجرت أنوثتها ، وجاء الخاطب تلو الخاطب ، ويذهب والكرة لا يعيد ، فمن يقترن إسمه بمن لا إسم لها يشقى شقاءاً شديد ، ودرت ود بحقيقتها ، وراحت تبحث عن هويتها ، تشتم الرحم الذي حملها ، وتلهث وراء النطفة التي أنبتتها ، حتى تجمدت يوماً في هذا الطريق ، أمام سيارة فارهة ، تقودها إمرأة آسرة ، تماثلت ملامحهما ، وشخصت أبصارهما ، وخشعت قلوبهما ، وكادت الأخرى أن تبدي بها ، ولكن قسوة قلبها غلبتها ، وزيف الحياة أغراها ، فإنطلقت بسيارتها ، تطوي الأرض ، والزمان ، وذكريات آلامتها ، وخطيئة ود بها ذكرتها ؟!
ثم راح يجهش في بكاء شديد ، ويكمل بصوت النحيب :
- ولكن وهي تفر من خطيئتها ، بسيارتها صدمتها ، وانفتحت إشارة المرور ، ودارت ود حول نفسها ، غير مصدقة فعلتها ، وذلت قدماها ، وهوت على الإسفلت ، فداست فوق رأسها الرقيق ، إطارات شاحنة فجرتها ، ونضح الدم على الإسفلت ، وبقى الجسد الرقيق ينتفض بحثاً عن هويته ، وكسرت عظامها ، وتهشمت ، وسحقت ، على الإسفلت سحقاً ، بفعل مئات الإطارات ، من عشرات السيارات التي لم تتوقف ، ولم يكن في قلوب سائقيها مثقال ذرة من رحمة ، وتناثر فتات لحم جسدها ، تطعم الكلاب الضالة ، والقطط الجائعة ، حتى أغلقت الإشارة ، فركضت مع من ركض لإنقاذها . لم يتبق منها غير بقعة دم ، وخصلة شعر ، و صار قاع الطريق قرارها .
ومن جيبه أخرج خصلة الشعر ، ومد يده بها إليه ، ما أن لمسها حتى صارت قشعريرة في جسده ، ولمعان ذكري متعة فانية في عقله ، ونزيف من الندم يدمي قلبه ، وأخذ يصيح ، ويجهش في البكاء ، وينتحب :
- يا ويلي .... يا ويلي ....يا ويلي
وقام الرجل من القعود ، وأخذ يذهب ويعود ، ثم راح نحو سيارته ، وفتح بابها الموصود ، وأمسك بباقة ورد يهديها لود ، وأبقى باب سيارته مفتوح ، وجثا على ركبتيه ، وساكن الخيمة راح يهتز من بكاء شديد ، ووضعه على ضريحها الموهوم ، ودنا برأسه من الإسفلت وطبع عليه قبلة بشفتيه وهو يقول :
- ننساها ، وهناك من يحصيها ، سامحيني بعد أن فات الأوان ، يا إبنة لم يتبق منها إلا خصلة شعر ، وبقعة دماء .
ثم راح يجهش في بكاءه ، ويمرغ وجهه في الإسفلت ندماً ، وألماً ، ورحلت الكلاب لأنها وجدت من يأويها ، ولم تعد القطط بعد أن وجدت من يطعمها ، وبقى ساكن الخيمة يبيع الورود ، وأصبح على كل من يرغب في المرور ، أن يقبل ضريح ود الموهوم ، ويهديه باقة من الورود ، وسميت الإشارة بإسمها ، وصارت الناس تشتم عطر ورودها من رحم أحزانها ، فأطلق على الشارع إسمها ، ولم يمض وقت طويل حتى صارت في كل الحي محلات الورود ، فأطلقوا على الحي إسمها ، وإجتاح المدينة آلاف النادمين ، يقبلون الإسفلت ، ويقدمون الورود ، فأطلقوا على المدينة إسمها ، وأصبحت الفتاة التي ماتت بلا هوية ، هي بذاتها هوية لمدينة بأكملها مدينة (( ود ))
إنتهى

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق