مَمْنُوْع مِن الْصَّرْف 
قُصَّة قَصِيْرَة 
كَتَبَهَا : أَحْمَد كَمَال 
( فَيْلَسُوْف الْقِصَّة ) 
لَيْلَة مَثَل أَي لَيْلَة ، بَعْد نَهَار قَضَيْتَه فِي الْعَمَل ، وَالْسَّعْي بَيْن الْيَأْس وَالْأَمَل ، رُحْت أَعَد رُكْنَي الْخَاص الَّذِي أَنْزَوِي فِيْه مَثَل الْجَنِيْن ، فِي رَحِم الْمُسْتَحِيْل ، مَكْتَب كَبِيْر ، خَلْفِه كُرْسِي وَثِيْر ، مُتَحَرِّك ، دَوَّار ، وَفِرَاش مَحْشُوّر فِي الْزَّاوِيَة ، تَحْتَلُّه وِسَادَتَان مُنهِكَتَان مِن ثِقَل رَأْسِي ، وَغِطَاء فِي الْلَّيَالِي الْصَّيْفِيَّة ثَقِيْل ، وَفِي لَيَالِي الْشِّتَاء أَرَق مِن أَوْرَاق شَجَر الْخَرِيف ، ارْتَمَيْت عَلَى الْكُرْسِي وَرُحْت أُحَرِّك جَسَدِي يَمِيْنَا وَيَسَارَا ، أَنْتَظِر مَخَاضَا مَن رَّحِم الْعَقْل الْفَسِيح ، وَإِذَا بَشَاشَة الْحَاسُوْب تُنَادِي ( تُلَلِم ، تُلَلِم ، تُلَلِم ) أَدْرَكْت مُتَأَخِّرَا أَنَّنِي نَسِيْت بَرْنَامَج الْمُحَادَثَة الْفَوْرِيَّة يَعْمَل ، وَاقْتَحَمْت خَلْوَتِي أَحَد الْمُعْجَبَات ، فِي لَحْظَة الْمَخَاض ، وَبِمَا أَنَّنِي أَحْتَرِم الْضُّيُوْف ، أُجِبْت عَلَى اسْتِحْيَاء ، فَأَسْرَعْت هِي تَعْرِف عَن نَّفْسِهَا : - 
- أَنَا شَيْمَاء 
فَرَدَدْت بِحَمَاس ، وَأَصَابِعِي تَتَرَاقَص فَوْق أَزْرَار لَوَحَة الْمَفَاتِيْح : - 
- الْفَتَاة الْذَّهَبِيَّة ؟! 
فَأَجَابَت بِسُرْعَة عُمْرُهَا الْصَّغِيْر :- 
- نَعَم هِي .... وَلَدَي سُؤَال أُسْتَاذِي الْعَزِيْز ؟! 
وَلَمَّا رَحُبَت بِتَلَقِّي الْسُّؤَال ، كَان ( عِبَارَة) مَطْلُوْب أَن اسْتَخْرَج مِنْهَا مَمْنُوْع مِن الْصَّرْف مَع تَوْضِيْح سَبَب الْمَنْع ، حَتَّى تَجْتَاز الِاخْتِبَار ، وَرَغْم فَهْمِي لِلْسُّؤَال ، وَإدْرَاكِي صُلْب الْجَوَاب ، تَأَنَّيْت وَأَبَّرَقَت إِلَى عَقْلِي ذَاك الْسُّؤَال ، وَهِي تَلِح عَلَي بِسُرْعَة الْجَوَاب ، وَأَصْبَح زَعِيْق الْحَاسُوْب مَثَل حَي يَفِر مِن الَمَمَات ، وَأُخْتَرِق الْسُّؤَال حُدُوْد الْعَقْل ، وَدَخَل يُفَتِّش فِي مَجَرَّة الْمَعْلُوْمَات ، سِجِلّات ، صُوَر ثَابِتَة ، لَقَطَات ، لَم يَكْتُبْهَا مُؤَلَّف ، وَلَم يُصَوِّرُهَا مُصَوِّر ، وَلَم يُنْفِق عَلَيْهَا مُنْتَج ، وَلَم يَجْمَعُهَا مُرَتَّب الْلَّقَطَات ، وَأَخْرَجَهَا الْوَاقِع بِغَيْر حِسَاب ، وَتَأَمَّلْت عَقْلِي مِثْل ذَلِك الْحَاسُوْب ، يُسَجِّل عَلَي كُل أَحْدَاث حَيَاتِي ، صَوْت ، وَصُوُرَة ، حَتَّى أَحَاسِيْسِي الْمَغْموُرَة ، وَرَائِحَة الْذِّكْرَيَات الْمَقْهُوْرَة ، لَقَد رَاح الْسُّؤَال يَنْكَأ الْجَرَّاح ، تِلْو الْجَرَّاح ، وَالْأَفْرَاح تِلْو الْأَفْرَاح ، وَالْزَّلات تِلْو الْزَّلات ، وَتَسَاءَلْت لِمَن يُسَجِّل حَاسُوْب رَأْسِي رَغُما عَنِّي؟ فَأَنَا أَكِيْد لَا أَقْدِر أَن أَمْحُو مِن ذَاكِرَتِي مَا أَشَاء !! وَبَيْنَمَا شَيْمَاء فِي إِلْحَاحِهَا مُسْتَمِرَّة ، وَالْحَاسُوب عَلَا صْيَاحُه ، ( تُلَلِم ، تُلَلِم ، تُلَلِم ) ثُم أَجْرَاس الْتَّنْبِيْه الْمُزْعِجَة ( تِرِرِن ، تِرِرِن ، تِرِرِن ) وَكَأَنِّي صِرْت حَاسُوْبا بَشَرِي مِن دَاخِل حَاسُوْب فَتَاتِي الْذَّهَبِيَّة الْمَعْدَنِي ، وَبَيْنَمَا يُوَاصِل الْسُّؤَال تَحَرِّي الْجَوَاب فِي فَضَاء عّقْلِي وَالْسِّبَاحَة وَسَط كَثِيْر مِن الْأَشْيَاء ، تَمَرُّد الْوِجْدَان ، وَسَمِعْت أَنَّات ، تُغَلِّفْهَا خَفَقَات ، تَهْمِس بِشَوْق ، فَإِذَا بِه الْقَلْب أَرْسَل لَي عَبْر الْوِجْدَان ، يُرِيْد أَن يُجِيْب عَن هَذَا الْسُّؤَال . اسْتَغْرَبْت تُطَفِّله ، وَامْتَعَضَت مِنْه ، وَأَرَدْت أَن أَنْهَرُه ، فَقُلْت لَه عَبْر الْلِّسَان : - 
- إِن هَذَا سُؤَال لِلْعَقْل .... وَلَيْس لِلْقَلْب هُنَا أَي جَوَاب !! 
فَازْدَاد خَفَقَان قَلْبِي كَأَنَّه يُبَلِّغَنِي بِأَنَّه غَضْبَان ، وَصَاح قَائِلا : - 
- لِلْعَقْل مَا ظَهَر ، وَلِلْقَلْب مَا بَطَن 
فَارْتَسَمْت عَلَى شَفَتِي ابْتِسَامَة ، تَلَتْهَا رَعْشَة مِن شِدَّة خَفَقَان قَلْبِي ، فَأَرْسَلَت لَه عَبْر الْوِجْدَان : - 
- أَنَا مِن يُقَرِّر هُنَا ... وَعَقْلِي قَد حُسِم الْجِدَال . 
فَأَسْرَع يَرِد عَلَي غَاضِب : - 
- وَأَنَا مِن مُلْك ... وَعَلَى عَرْش الْكَوْن أُجْلِسُك . 
سَكَنَت مَكَانِي لَمَّا بَدَأ قَلْبِي يْعَصَاني ، وَرَاح يَخْفُت قَبَضَاتِه ، وَبَدَأَت تَتَجَمَّد أَطْرَافِي ، وَيَقْشَعِر جَسَدِي ، ثُم رُحْت أَرْتَجِف .... أَهْتَز .... بِالْكَاد الْتُقِط أَنْفَاسِي ، عَز عَن أَنْفِي اسْتِنْشَاق الْهَوَاء ، فَفَتَحْت فَمِي كَالْتَّمَاسِيْح رُبَّمَا تَضَخُّم حَجْم الْهَوَاء ، وَرَاح قَلْبِي يَخْفُت ثُم يَخْفُت ، فَانْحَنَى عّقْلِي مُعْلِنَا الْخُضُوْع ، وَرَاح قَلْبِي يَخْفِق مِن جَدِيْد ، وَيُضَخ الْدِّمَاء فِي الْشِّرْيَان وَالْوَرِيد ، وَيُعِيْد لِجَسَدِي الْحَيَاة مِن بَعِيْد ، تَنَفَّسَت الْصُّعَدَاء ، وَلَا زَالَت شَيْمَاء ، تُلِح مِن الْإِمَارِات ، تُرِيْد لِسُؤَالِهَا جَوَاب . لَمَعَت فِي عَيْنِي دُمُوْع الانْكِسَار ، فَعَقْلِي لَم يَرْضَخ يَوْمَا لِأَي انْهِزَام ، وَصَاح عّقْلِي أَخِيِرَا مُهَلِّلا : - 
- عَثْرَت عَلَى الْجَوَاب ! 
وَرَاحَت أَطْرَاف أَنَامِل أَصَابِعِي تُكْتَب لِشَيْمَاء مَا تُرِيْد لِتَجْتَاز الِاخْتِبَار ، وَبَقِيَت أَنَا مُمْتَعِضا مِن قَلْبِي ، أَتَسَاءَل لِمَاذَا عَصَانِي ؟! فَإِذَا بِقَلْبِي يَخْفِق بِكَلِمَات :- 
- أَلَا تُرِيْد جَوَاب الْسُّؤَال ؟! 
فَهَزَزْت رَأْسِي بِأَن نَعَم ، فَخَفَق قَلْبِي مُجِيْبَا : - 
- الْمَمْنُوْع مِن الْصَرْف .... أَن تَتَخَلَّى عَن الْحُلْم الْمُسْتَحِيْل ! 
اتَّسَعَت حَدَقَتَي مَن الدَّهْشَة ، فَوَاصِل خَفَقَانُه قَائِلا : - 
- صِدْق حِلْمِك ... وَلَا تَخْجَل مِن الْبُوَح بِه .... وَاعْمَل عَلَيْه ... تُحَقِّق الْمُسْتَحِيْل 
فَانْهَمَرَت دُمُوْع عَيْنِي بِحَبَّات الْأَمَل ، وَهَزَزْت رَأْسِي مُوَافِقَا ، حَتَّى تَحَوَّل خَفَقَان قَلْبِي إِلَى ضَحَكَات ، وَاعْتَذَر مِنِّي طَالِبُا الْعَفْو وَالْسَّمَاح ، وَرَاح يُطَبِطَب عَلَى صَدْرِي قَائِلا : - 
- مَا أَسْعَدَك بِعَقَلِين .... أَحَدُهُمَا فِي رَأْسِك ، وَالْآخَر فِي قَلْبِك ! 
وَرَاحَت شَيْمَاء الْفَتَاة الْذَّهَبِيَّة ، بِإِجَابَة الْسُّؤَال الْعَقْلِيَّة ، وَفَاتَتِهَا إِجَابَة أَبْلَغ مِنْهَا مِن عَقْل قَلْبِي ، وَلَم تَكُن لَيْلَتَي لَيْلَة عَادِيّة ، فَقَد اكْتَشَفْت فِيْهَا أَنِّي رَجُلَا لَه عَقْلَان !! 
،،،، تَمَّت ،،،،